سياسةدولية

أفول المظلّة الأمريكية وتصدّع الإرث البريطاني… إسرائيل بين العزلة والذوبان

تشهد الساحة الدولية لحظة غير مسبوقة من الارتباك في المحور الغربي؛ إذ بدت الولايات المتحدة عاجزة عن فرض هيبتها التقليدية، فيما أخذت بريطانيا تعيد النظر حتى في إرثها الاستعماري الذي أوجد “الحالة الإسرائيلية”، بينما وجدت تل أبيب نفسها في عزلة خانقة تتآكل معها أساطيرها المؤسسة.

أول المؤشرات جاءت من واشنطن: إدارة مرتبكة، وقيادة سياسية تلهث خلف أوروبا في محاولة يائسة لترميم جبهة الحلفاء. لم يعد حديث أمريكا سوى عن اتفاقيات دفاع مشروطة وأثمان باهظة تطالب بها شركاء الخليج، في الوقت الذي تتعرض فيه مكانتها لامتحان قاسٍ. هرولة قادتها إلى لندن كانت بمثابة استجداء علني: محاولة منع الأوروبيين من الانزلاق نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وحثّهم على التمسك بالمشروع الإسرائيلي المتداعي. لكن المشهد كان أوضح من أن يُخفى: أمريكا لم تعد اللاعب الذي يفرض شروطه، بل دولة تترجّى شركاءها التاريخيين.

أما بريطانيا، صاحبة وعد بلفور ومهندسة الوجود الإسرائيلي منذ بدايته، فقد خرجت بتصريحات صادمة: ذلك الوعد لم يكن سوى اتفاق سياسي غير ملزم، وأن من صنع إسرائيل قادر على هدمها. لقد بدا وكأن لندن تعلن، لأول مرة منذ قرن، استعدادها للتبرؤ من المولود الذي رعته وأمدّته بأسباب الحياة. هذه ليست مجرد كلمات عابرة، بل رسالة إلى واشنطن وتل أبيب معًا بأن زمن الاستثمار في “المشروع الإسرائيلي” كأداة مطلقة للسيطرة قد انتهى.

بالنسبة لإسرائيل، كانت النتيجة قاسية: مجتمع مأزوم نفسيًا، جنود ينهارون أمام الكنيست، ومحلّلون يعلنون سقوط “أسطورة الدولة اليهودية” تحت ما يسمّى بعقد الثمانين. حملات الضغط النفسي من عواصم عربية، والتململ الأوروبي، والانسحاب الأمريكي من موقع الوصي المطلق، كلها اجتمعت لتكشف هشاشة المشروع. لم تعد إسرائيل بالنسبة إلى حلفائها الغربيين رصيدًا استراتيجيًا مضمون العائد، بل عبئًا يهدّد بتفكيك تحالفاتهم من الداخل.

المفارقة أن إسرائيل حاولت إنقاذ صورتها عبر تصعيد عسكري في غزة وسوريا وقطر، لكنها لم تحصد سوى المزيد من العزلة. تهديداتها تحوّلت إلى اعتراف بالعجز، وضرباتها “الكرتونية” كشفت حدود قدرتها على فرض الوقائع. ومع تصاعد الكراهية الشعبية والرسائل الأوروبية، بات من الواضح أن تل أبيب تتجه إلى مرحلة انكماش طويلة، لا انفجار توسّعي كما حلمت يومًا.

في ضوء هذه التطورات، يمكن القول إن المشهد يشي بولادة نظام دولي جديد: أمريكا لم تعد المهيمن الذي لا يُنازع، بريطانيا تراجع حساباتها وتتنصّل من ماضيها، وإسرائيل تفقد تدريجيًا موقعها كأداة استراتيجية في الشرق الأوسط. إنها لحظة تحوّل لا تتعلق فقط بانهيار مشروع، بل بإعادة رسم خرائط النفوذ: من سيملأ الفراغ الذي يخلّفه الغرب؟ وكيف ستُعيد القوى الإقليمية والعالمية تموضعها في عالم تتساقط فيه الأقنعة القديمة؟

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا