سياسةعربية وشرق اوسط

السعودية وباكستان… من الاتفاق الدفاعي إلى ملامح نظام إقليمي جديد

لم تكن الضربة الإسرائيلية التي استهدفت الدوحة حدثًا عابرًا يمكن تجاوزه في سجلات الصراع، بل كانت نقطة تحول فارقة كشفت هشاشة المظلة الأمريكية التي طالما احتمى بها الخليج. فقد رأت العواصم الخليجية بأمّ أعينها أن واشنطن، رغم خطابها وضجيجها، لم تعد قادرة على حماية شركائها أو حتى ردع خصومهم. كانت تلك اللحظة بمثابة إعلان غير مباشر بانتهاء عصر الاعتماد المطلق على القوة الأمريكية، وبدء البحث عن بدائل تضمن بقاء الخليج في مأمن من المفاجآت.

في خضم هذه التحولات، وقّعت المملكة العربية السعودية مع جمهورية باكستان الإسلامية اتفاقية دفاع استراتيجي غير مسبوقة، تنص على أن أي اعتداء على أحد الطرفين يُعتبر اعتداءً على الآخر، وأن الرد سيكون مشتركًا. هذا النص الصريح يضع الأساس لشراكة تتجاوز حدود التعاون التقليدي إلى مستوى من الردع المتبادل، وهو ما يجعل الرياض لأول مرة في تاريخها شريكة مباشرة في منظومة نووية بحكم ارتباطها بالترسانة الباكستانية.

هنا تكمن الأهمية القصوى للاتفاق: فالسعودية التي حالت القوانين والضغوط الدولية دون امتلاكها سلاح الردع النووي، وجدت طريقًا للالتفاف على هذه القيود عبر حليفها الباكستاني. والحقيقة أن الرياض ليست غريبة عن هذا الملف؛ فمنذ سبعينيات القرن الماضي، كانت هي الداعم المالي والسياسي الأول للمشروع النووي الباكستاني، ولولا أموالها ورعايتها لما تمكن عبد القدير خان، “أبو القنبلة النووية الباكستانية”، من إنجاز ما أنجز. واليوم، بعد عقود، تعود تلك العلاقة إلى الواجهة في صيغة أوضح وأجرأ: مظلة نووية سعودية ـ باكستانية معلنة، وليست مجرد تلميحات أو اتفاقات سرية.

لكن الاتفاق لا يقف عند حدّه العسكري فحسب، بل يفتح الباب أمام تحولات استراتيجية أوسع. فهو يعكس بداية تحلل الخليج من الوصاية الأمريكية التي طالما أمسكت بمفاتيح أمنه. لقد كان الخليج لعقود طويلة طيعًا في يد واشنطن، يستجيب لإشاراتها وينفذ سياساتها. أما اليوم، فإن خروج السعودية عن هذا النمط هو إعلان استقلال استراتيجي، سيجعل الولايات المتحدة تندم ندمًا شديدًا على تفريطها في منطقة كانت الأكثر انقيادًا لمصالحها.

الأمر اللافت أن هذه الخطوة السعودية تتكامل مع حراك إقليمي أوسع. فمصر بدورها، عبر لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي برئيس الوزراء الباكستاني، أرسلت إشارة واضحة إلى أنها تراقب التطورات وتبحث لنفسها عن موقع داخل هذه المعادلة الجديدة. وهكذا يلوح في الأفق مشروع قوة دفاع مشترك بصيغة مغايرة لما عرفناه في الماضي؛ صيغة تبدأ بثنائيات (سعودية ـ باكستانية، مصرية ـ باكستانية، وربما لاحقًا ثنائيات أخرى) قبل أن تتبلور في صورة أوسع لتحالف عربي ـ آسيوي متماسك.

إن هذا الاتجاه يحمل أبعادًا عميقة: فمن جهة، يمنح الدول العربية لأول مرة منذ عقود قدرة على بناء منظومة أمنية مستقلة عن الإرادة الأمريكية. ومن جهة ثانية، يعيد التوازن مع إيران التي راهنت طويلاً على تفوقها في مجال التسلح غير التقليدي. ومن جهة ثالثة، يضع إسرائيل أمام معادلة ردع جديدة لم تعهدها من قبل، حيث لم تعد وحدها القوة النووية غير المعلنة في المنطقة.

الولايات المتحدة، من ناحيتها، ستجد نفسها أمام خسارة مزدوجة: فهي فقدت ثقة حلفائها الذين اكتشفوا هشاشة مظلتها، كما أنها أهدرت فرصة الحفاظ على منطقة كانت الأسهل في الإدارة والأكثر ولاءً لمصالحها. إن الندم الأمريكي في قادم الأيام سيكون بقدر ما كان التبعية الخليجية يومًا ما مصدر قوة لها.

باختصار، الاتفاق السعودي ـ الباكستاني ليس مجرد بند عسكري يُضاف إلى أرشيف المعاهدات الدولية، بل هو إعلان عن ولادة مرحلة جديدة في الشرق الأوسط. مرحلة تُعيد للسعودية مكانتها كفاعل إقليمي يملك أدوات الردع القصوى، وتفتح الباب أمام نظام عربي جديد يتشكل عبر بوابة “الثنائيات”، تمهيدًا لقوة دفاع مشترك أكثر استقلالًا وصلابة. إنه انقلاب في موازين القوى، ورسالة للعالم أن الخليج لم يعد قاصرًا تحت الوصاية الأمريكية، بل بات مؤهلًا لصياغة معادلاته بيده.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا