أراء وكتاب

افتتاح كأس أمم إفريقيا بالمغرب: حين تتحول الرياضة إلى خطاب حضاري

عبد الله مشنون كاتب صحفي ومحلل سياسي مقيم في إيطاليا مهتم بالشؤون العربية، قضايا الهجرة والاسلام

لم يكن افتتاح كأس أمم إفريقيا من المغرب مجرد لحظة رياضية عابرة، بل جاء كحدث رمزي محمّل بدلالات ثقافية وسياسية وحضارية عميقة. فالعالم الذي تابع حفل الافتتاح لم يشاهد فقط عرضًا فنّيًا أو احتفالًا كرويًا، بل وقف أمام خطاب متكامل يعرّف بالمغرب كفضاء جامع، وكمفترق طرق تلتقي فيه إفريقيا بذاتها، وتخاطب من خلاله العالم بثقة وهدوء.

لقد قدّم المغرب نفسه، من خلال هذه اللحظة، باعتباره بلدًا يدرك موقعه في التاريخ والجغرافيا معًا. فهو ليس على هامش القارة، ولا خارجها، بل في قلبها الرمزي؛ بلدٌ تشكّلت هويته عبر تفاعل مستمر بين الصحراء والجبال، بين البحر والسهول، وبين إفريقيا جنوب الصحراء والعالم المتوسطي. هذا التراكم التاريخي لم يُقدَّم في الافتتاح كحكاية ماضٍ منتهٍ، بل كرصيد حيّ يُستثمر لصناعة الحاضر وبناء المستقبل.

وتكتسب هذه التظاهرة الرياضية أهمية خاصة بالنسبة للمغرب، ليس فقط من حيث التنظيم أو الحضور الجماهيري، بل باعتبارها محطة ضمن رؤية استراتيجية شاملة. فاحتضان كأس أمم إفريقيا ينسجم مع دينامية كبرى من المشاريع الهيكلية التي يشهدها المغرب في مجالات البنية التحتية، النقل، الملاعب، السياحة، والتنمية الحضرية، وذلك في إطار الرؤية المتبصّرة والتنفيذ الحكيم للتعليمات الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله. هذه المشاريع لا تُنجز من أجل الحدث في حد ذاته، بل تُصمَّم لتكون استثمارًا طويل الأمد في مستقبل البلاد، وتعكس طموح المغرب إلى ترسيخ موقعه كقطب إقليمي قادر على تنظيم التظاهرات الكبرى وفق أعلى المعايير، وجعل الرياضة رافعة حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز صورة المغرب كبلد الاستقرار والانفتاح.

الرسالة الأهم التي حملها الافتتاح هي أن التنوع ليس عبئًا، بل قوة. فإفريقيا التي كثيرًا ما قُدِّمت في الخطابات الخارجية كقارة أزمات، ظهرت في هذه المناسبة كقارة جمال وثراء إنساني وثقافي. تعدد اللغات، الإيقاعات، الأزياء، والرموز لم يكن استعراضًا فولكلوريًا، بل تأكيدًا على أن الاختلاف حين يُدار بوعي يتحول إلى مصدر إبداع وتكامل.

ومن زاوية أخرى، بعث الافتتاح برسالة واضحة إلى الدول الإفريقية نفسها: أن علاقتها بالمغرب ليست علاقة ظرفية أو مصلحية، بل علاقة مبنية على فهم عميق للتاريخ المشترك والمصير المتقاطع. الصورة التي صُنعت في هذه اللحظة كان لها أثر معنوي قوي، لأنها تعزز الثقة، وتفتح المجال لتعاون أوسع في مجالات تتجاوز الرياضة، نحو الثقافة، الاقتصاد، والسياسة.

كما قدّم المغرب نفسه كجسر مزدوج الاتجاه: بوابة إفريقيا نحو العالم، وجسر العالم نحو إفريقيا. هذا الدور لا يقوم على الوصاية أو الادعاء، بل على الشراكة والقدرة على التواصل مع مختلف الفضاءات الحضارية. فالفرجة التي شاهدها العالم لم تكن فقط عرضًا فنيًا، بل لغة مشتركة يفهمها الجميع، تؤكد أن القوة الناعمة أصبحت عنصرًا أساسيًا في العلاقات الدولية الحديثة.

في النهاية، يمكن القول إن افتتاح كأس أمم إفريقيا من المغرب كان لحظة وعي جماعي، تذكيرًا بأن الرياضة حين تلتقي بالثقافة والتاريخ يمكن أن تتحول إلى منصة لإعادة تعريف القارة، وإعادة سرد قصتها بلسان أبنائها. إفريقيا ليست مجرد مساحة جغرافية، بل وطن للتنوع، وحين ندرك قيمة هذا التنوع، يتحول إلى ثروة حقيقية قادرة على بناء مستقبل أكثر توازنًا وإنسانية.

Ahame Elakhbar | أهم الأخبار

جريدة أهم الأخبار هي جريدة مغربية دولية رائدة، تجمع بين الشمولية والمصداقية، وتلتزم بالعمل وفقًا للقانون المغربي. تنبع رؤيتها من الهوية الوطنية المغربية، مستلهمة قيمها من تاريخ المغرب العريق وحاضره المشرق، وتحمل الراية المغربية رمزًا للفخر والانتماء. تسعى الجريدة إلى تقديم محتوى يواكب تطلعات القارئ محليًا ودوليًا، بروح مغربية أصيلة تجمع بين الحداثة والجذور الثقافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا