
الأدب العربي ليس حروفًا تُرصّ، ولا سجعًا يُستعرض، بل هو قدرٌ يُكتب، وموقفٌ يُتّخذ، وشهادةُ روحٍ في زمنٍ يضجّ بالضجيج ويجفّ فيه المعنى. هو الكلمة إذا صدقت فأحرقت، وإذا سكنت فأيقظت، وإذا سُئلت أجابت بما لا يُقال إلا مرةً في العمر. هو البيان حين يكون سيفًا، والبلاغة حين تصير ضميرًا، واللغة حين ترتقي من الزينة إلى الرسالة.
في الجاهلية، كان الشعر سلطةً لا تُنازع، وديوانًا لا يُكذّب، وصوتًا إذا ارتفع أسقط، وإذا خفت جمع. قصيدةٌ تُعلن حربًا، وبيتٌ يعقد صلحًا، وكلمةٌ ترفع رجلًا أو تضع قبيلة. هناك، في الصحراء العارية من الزيف، وُلد الشعر عاريًا من التكلّف، جزليًّا كالرعد، صافيًا كالسيف. وقف امرؤ القيس فبكى الحجر، ونطق زهير فأنصف الدهر، وصاح عنترة فوحّد بين السنان والبيان، فكان الشعر حياةً تُعاش لا نصًا يُقرأ.
ثم جاء الإسلام، لا ليقتل الشعر، بل ليخلّصه من وثنية الهوى، فهذّب اللفظ، وسمّى المعنى، وردّ الكلمة إلى ميزان القيم. صار الأدب أمانة، والبلاغة مسؤولية، والشعر شاهدَ عدل لا شاهدَ زور. وتعاقبت العصور، فبلغ البيان ذروته، وتكاثرت المدارس، وازدهرت الأغراض، حتى صار الأدب العربي كونًا متكاملًا، فيه الحكمة إذا نضجت، والغزل إذا ترقّى، والمدح إذا انضبط، والهجاء إذا التزم حدّه.
وفي العصر الحديث، لم يكن التجديد خيانة، بل امتحانًا. تهشّمت القوالب لأن الأرواح ضاقت بها، وخرج الشعر من عمودٍ واحد لأن الإنسان لم يعد واحدًا. تغيّر الإيقاع، لا الروح، وتبدّلت الأشكال، لا الجذور. فكان الشعر الحديث صرخة وجود، ومساءلة معنى، ومواجهة زمن. ومع ذلك، بقي السجع شاهدًا، والبيان قائمًا، لأن العربية إذا غضبت أبدعت، وإذا تجددت تجذّرت.
وقد عاصرتُ الأدباء والشعراء، وخالطتُ الحرف وأهله، لا بصفتي أمينًا عامًا للاتحاد الدولي للشعراء والأدباء العرب، ولا طلبًا لصفةٍ أو مقام، بل بصفتي عاشقًا للكلمة، ومقيمًا في ظلّها، ومشدودًا إلى روح الأدب منذ الطفولة. تربّيت على الشعر كما يُتربّى على الصلاة، وعرفت الأدب قبل أن أعرف الألقاب. رأيت الكلمة حين تُنقذ وطنًا، وحين تُضلّل أمة، وحين تُستعمل سلاحًا أو دواء. فآمنت — عن تجربة لا تنظير — أن الأدب ليس ترفًا ثقافيًا، بل موقف أخلاقي، وأن الشاعر ليس مزخرفَ لغة، بل حارسُ معنى.
لهذا، أقولها بوضوح لا مواربة: الأدب العربي لا يُنقَذ بالنوستالجيا، ولا يُقتل بالحداثة، بل يُحيا بالصدق. بالكلمة التي تُقال لأن لا بديل عنها، لا لأن التصفيق ينتظرها. وسيبقى الأدب العربي، قديمه وحديثه، صرحًا إذا حاولوا هدمه ارتدّ عليهم، وصوتًا إذا خنقوه علا، وذاكرةً إذا أنكروها شهدت عليهم. هو قدرُ هذه اللغة، ومحنةُ هذه الأمة، وخلاصُ من آمن بأن الكلمة إذا صدقت… خُلّدت.









