
بين اليقظة الكاملة والنوم العميق، توجد منطقة غامضة لا يدخلها الإنسان كثيرًا بوعيه، لكنها تسكنه في كل لحظة شرود، وكل ومضة إلهام، وكل إحساس داخلي لا يعرف له تفسيرًا. هناك تعمل “قوة ثيتا”، الموجة التي لا تنتمي للضجيج ولا للسكون التام، بل للمنطقة الرمادية بينهما، حيث يضعف المنطق وتعلو لغة الشعور.
قوة ثيتا تظهر عندما يهدأ الإيقاع الداخلي للإنسان، عندما يسرح البصر بلا هدف، عندما تنغلق العينان دون أن يكون النوم قد بدأ، وعندما يغوص الفكر في ذكريات بعيدة أو صور لا نعرف من أين جاءت. في هذه الحالة، لا يكون الإنسان مستيقظًا تمامًا، ولا نائمًا تمامًا، بل حاضرًا في بعد آخر من الوعي.
هنا، في ثيتا، تنفتح بوابة العقل الباطن على مصراعيها. الذكريات القديمة، الصدمات المنسية، الرغبات الدفينة، المخاوف التي لا نعترف بها، كلها تتسلل إلى السطح على هيئة مشاعر غامضة، أو صور خاطفة، أو أحاسيس لا تفسير لها. لذلك ترتبط ثيتا بالأحلام، وبالطفولة، وبأعمق مشاعر الإنسان التي لا تمر عبر غربال العقل المنطقي.
في هذه الحالة يولد الإبداع الحقيقي. الشعراء، الفنانون، المخترعون، كثير منهم لا تأتيهم أفكارهم وهم في ذروة التركيز العقلي، بل وهم في لحظة غياب جزئي عن الواقع، في لحظة شرود، في لحظة صمت داخلي. كأن العقل، حين يتوقف عن السيطرة، يسمح لشيء أعمق أن يتكلم.
قوة ثيتا هي التي تجعل الإنسان يبكي فجأة دون سبب واضح، أو يحزن بلا مبرر منطقي، أو يشعر براحة غريبة في لحظة سكون. هي التي تجعل بعض الروائح تعيدنا إلى طفولتنا دفعة واحدة، وتجعل بعض الأصوات تفتح أبوابًا أغلقها الزمن منذ سنوات.
لكن ثيتا ليست فقط بوابة الإبداع، بل هي أيضًا باب الهشاشة. في هذه الحالة يكون الإنسان أكثر قابلية للتأثر، أكثر قابلية للإيحاء، أكثر انفتاحًا للخوف، وللوهم، وللتأثر بالكلمات والصور. ولهذا ارتبطت هذه الموجة في العصر الحديث بكل ما يُعرف بالبرمجة الذهنية، والتنويم الإيحائي، والسيبليمنال، لأن العقل الواعي يكون في أدنى درجات حراسته.
الإنسان الذي يغرق في ثيتا كثيرًا دون وعي قد يشعر بتشتت، وشرود دائم، وهروب من الواقع، وقد يجد صعوبة في الحسم واتخاذ القرار، لأن جزءًا منه يبقى معلّقًا في عوالم داخلية لا تُرى ولا تُمسك. أما من ينجح في موازنتها، فيستخرج منها كنوزه دون أن يغرق فيها.
الطفل يعيش أغلب وقتِه في ثيتا، لذلك يكون خياله واسعًا، وتأثره سريعًا، ومشاعره عميقة، وارتباطه بالأحداث أقوى. ومع التقدم في العمر، تقل هذه الموجة لصالح العقل التحليلي، لكن بقاء قدر منها هو ما يمنح الإنسان حسّه الإنساني، ودفئه، وقدرته على الإبداع والتعاطف.
قوة ثيتا تُذكّر الإنسان أن داخله ليس مجرد آلة تفكير، بل بحر من الصور والمشاعر والذكريات، وأن بعض الحقائق لا تُفهم بالعقل، بل تُشعر فقط. هي القوة التي لا تُقاس بالمنطق، بل بالإحساس.
وفي عالم يطلب من الإنسان أن يكون يقظًا طوال الوقت، ومُنتجًا طوال الوقت، ومشدود الأعصاب طوال الوقت، تبقى ثيتا الملاذ السري الذي تهرب إليه الروح حين تضيق قاعة الواقع.
قوة ثيتا ليست ضعفًا كما يظن البعض، بل تذكير خفي بأن الإنسان لا يعيش بالعقل وحده، بل بما يسكن خلفه أيضًا.











