ثقافة وفن

الأعداد في العقل العبري.. لغة الأسرار والرموز عند بني إسرائيل

سلسلة الأرقام _ الجزء الأول

منذ فجر التاريخ، احتلت الأرقام والرموز العددية مكانة محورية في الفكر الديني والفلسفي عند بني إسرائيل. لم تكن الأعداد لديهم مجرد أدوات حسابية لتنظيم الحياة اليومية أو المعاملات التجارية، بل تحولت إلى مفاتيح غيبية لفهم الكون والإله والإنسان. فالعقل العبري، الذي نشأ في بيئةٍ مفعمة بالأساطير والطقوس والبحث عن “المعنى الخفي”، جعل من الأرقام لغة رمزية تكشف عن العلاقة بين الخالق والمخلوق، وبين الزمان والمكان، وبين النور والظلمة.

في التقاليد اليهودية القديمة، وخصوصًا في القبّالة (الكابالا)، ارتبط كل رقم بقيمة روحية وأخلاقية محددة، وصار للعدد وظيفة تتجاوز الكمّ إلى المعنى. وتُعدّ الجمطرية (Gematria)، أي علم التفسير العددي للألفاظ، أحد أقدم فروع هذا الفكر. وهي تقوم على أن كل حرف عبري له قيمة عددية، ومن مجموع قيم الحروف يُستخرج معنى خفي أو إشارة رمزية. فمثلاً، اسم الله “יהוה” (يهوه) يساوي في الحساب العددي 26، ولهذا يُعتبر الرقم 26 من الأعداد المقدسة التي تعبّر عن الوجود الإلهي الكامل.

ويُعدّ الرقم 7 في الفكر العبري أكثر الأرقام حضورًا وقداسة، إذ يرتبط بالخَلق الإلهي وبالدورة الكونية الكاملة. فقد خلق الله العالم في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، ومن هنا جاءت فكرة السبت المقدّس. كما أن كثيراً من الطقوس اليهودية تدور حول هذا العدد: فالشهر السابع يشهد يوم الكفارة، والسنة السابعة تُعرف بـ«سنة السبت» التي يُترك فيها الحقل ليستريح، وبعد سبع سنوات من هذه الدورات تأتي «سنة اليوبيل» الكبرى. لذا يمثل الرقم 7 عند اليهود رمز الكمال الإلهي والتمام الزمني.

أما الرقم 12 فيحمل دلالة قومية ودينية كبرى، فهو يرمز إلى أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، الذين يمثلون الجسد الجمعي للشعب المختار، ولكل سبط رمزه وعدده ووظيفته. ومن هنا جاء حرص الفكر اليهودي على إعادة إنتاج هذا الرقم في الرموز السياسية والدينية، مثل عدد الأحجار في صدر الكاهن الأعظم، أو عدد الأرغفة في هيكل الرب، أو عدد تلاميذ الأنبياء في بعض النصوص.

في المقابل، يُنظر إلى الرقم 40 كرمزٍ للتطهير والامتحان. فقد مكث موسى عليه السلام أربعين يومًا على جبل سيناء يتلقى الوحي، وتاه بنو إسرائيل أربعين سنة في الصحراء قبل دخول الأرض المقدسة، كما كانت فترة الطوفان أربعين يومًا وليلة. ولهذا يرمز الرقم 40 إلى مرحلة التحول بين العقاب والخلاص، أو بين الموت والبعث الروحي.

أما الرقم 70 فيمثل الكثرة والتكامل الأممي، إذ يُقال في التقاليد التلمودية إن العالم يتكوّن من “سبعين أمة”، وإن مجلس الشيوخ اليهودي القديم (40) كان يتألف من سبعين حكيمًا، تعبيرًا عن الحكمة الجامعة. ومن ثمّ، أصبح هذا الرقم دلالة على اكتمال النظام الإنساني والديني في العالم.

وللرقم 10 أيضًا مكانة عظيمة، فهو عدد الوصايا الإلهية التي نزلت على موسى، ويرمز إلى الكمال التشريعي. وفيه يُختصر التوازن بين العقيدة والعمل، بين ما لله وما للإنسان. ولهذا سعى اليهود في تنظيم حياتهم اليومية على أساس الأعداد العشرية في الصلوات والمزامير والمواسم.

أما الرقم 6 فيمثّل عندهم الإنسان الناقص، لأنه اليوم الذي خُلق فيه آدم، ولأنه يقف قبل الرقم 7 الذي يرمز إلى الكمال الإلهي. ومن هنا نشأت فكرة أن “السبت” يُطهّر ما فعله الإنسان في الأيام الستة السابقة، وكأن السبعة تصحّح الستة في دورة الخلق.

وتذهب بعض مدارس القبّالة إلى أبعد من ذلك، فتعتبر أن كل رقم يحمل سرًّا في البنية الكونية، وأن فهم الأرقام يعني الاقتراب من “العلم الإلهي” المكنون. ومن هذا المنطلق، وُلدت لدى اليهود فكرة «العصر الموعود» و«الزمن المقدس» الذي يُحسب وفق دورات رقمية محددة. ولهذا نجد في بعض تفاسيرهم أن قيام إسرائيل الحديثة له علاقة بدورات حسابية تعود إلى النبوءات القديمة في سفر دانيال وإرميا، حيث تُفكّ الرموز عبر الأرقام لتحديد “نهاية الأزمنة”.

إن تقديس العدد في الفكر اليهودي ليس مجرد ممارسة صوفية، بل هو تعبير عن عقلٍ رياضي يربط الروح بالمادة، وعن رغبة في العثور على نظام إلهي يحكم كل تفاصيل الحياة. ولهذا لا غرابة أن نجد في تاريخ اليهود علماء بارزين في الحساب والهندسة والفلك، لأنهم رأوا في الرياضيات وسيلة لاكتشاف النظام الرباني في الكون.

وهكذا، فإن الأرقام عند بني إسرائيل لم تكن مجرد وسيلة للعدّ، بل لغة لقراءة المشيئة الإلهية، وجسراً بين الأرض والسماء، بين النصّ المقدّس والعالم المادي. وربما لهذا السبب ظلّت الأعداد في الفكر العبري تحتفظ بسحرها حتى اليوم، لأنها تُخاطب في الإنسان نزوعه الأبدي إلى النظام، وإيمانه العميق بأن وراء الفوضى الظاهرة قانونًا خفيًا، وأن كل رقمٍ في الوجود له معنى في ميزان الخالق.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا