
في لحظة فارقة من الزمن الروحي والرمزي للأمة، وجّه أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، رسالة سامية إلى المجلس العلمي الأعلى، بمناسبة مرور خمسة عشر قرناً على ميلاد خير البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهي رسالة ليست فقط تذكيراً بحدث تاريخي، بل هي إعلان عن تجديد للعهد الروحي، وتأكيد على الثوابت الدينية للمملكة، وإبراز لدور إمارة المؤمنين في رعاية الشأن الديني وفق تصور وسطي، جامع، ومنفتح على العصر.
جاءت الرسالة الملكية لتُعيد التأكيد على الوظيفة المحورية لإمارة المؤمنين، باعتبارها مؤسسة دستورية وروحية تسهر على حماية الدين وتدبير شؤونه، في انسجام تام مع القيم الإسلامية الأصيلة والمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني. هذه الوظيفة لا تقتصر على المجال الداخلي فحسب، بل تمتد لتشمل إشعاعاً خارجياً، يجعل من المغرب مرجعاً دينياً في العالم الإسلامي، وخاصة في إفريقيا وأوروبا، حيث الجاليات المسلمة تبحث عن نموذج ديني متوازن ومعتدل.
ما يميز الرسالة الملكية هو تحويل الذكرى إلى مناسبة لبناء الوعي وتجديد النظر في السيرة النبوية الشريفة، من خلال محاور واضحة وعملية، تُمكِّن العلماء من مخاطبة مختلف الفئات المجتمعية، ولا سيما الشباب. فالرسالة تؤكد على أن أعظم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو دين التوحيد، وأن ترجمته الأخلاقية في العصر الحديث تكمن في تربية الأجيال على التحرر من الأنانية، وتنشئتهم على الإيثار والانتماء للخير العام.
كما تدعو الرسالة إلى الاهتمام بما تميز به المغاربة تاريخياً، من حفظ للقرآن، وخدمة للحديث النبوي، وتعلق بالشمائل المحمدية من خلال المديح، والسماع، والصلوات على النبي ﷺ. وهذا ما يجعل من المناسبة فرصة لاجتماع الأمة على المحبة، والتزكية، وتثبيت القيم.
أبرزت الرسالة الملكية العناية المستمرة التي أولتها الدولة العلوية لتركة النبوة، سواء من خلال جمع الحديث الشريف، كما هو الحال مع كتاب “الفتوحات الإلهية” للسلطان سيدي محمد بن عبد الله، أو عبر المحافظة على أمهات الكتب كـ”الشفا” للقاضي عياض، و”دلائل الخيرات” للإمام الجزولي. هذا التأصيل ليس ترفاً فكرياً، بل هو أساس لمنظومة تدين مغربية تتميز بالاعتدال، والسمت، والتسامح، والتوازن بين العقل والنقل، وبين الممارسة الروحية والانخراط في قضايا الأمة.
كإعلامي مغربي مقيم بإيطاليا، وأحد أفراد الجالية الذين يعيشون تفاصيل الهوية بين حضارتين، أجد في هذه الرسالة تجسيداً حقيقياً للرؤية الملكية في جعل مغاربة العالم شركاء في بناء واستمرارية النموذج المغربي. فالرسالة وجهت بوضوح إلى ضرورة إشراك الجالية في فعاليات هذه المناسبة المباركة، عبر المجلس العلمي المغربي لأوروبا، والمؤسسات ذات الصلة، وذلك من أجل تثبيت الجذور الدينية لأبنائنا، وحمايتهم من تيارات التشدد أو الذوبان.
الاحتفاء بالسيرة النبوية في المهجر ليس فقط تعبيراً عن حب، بل هو حماية للهوية، وتحصين للأجيال، وتجسيد لانتماء روحي مستمر للمغرب كأرض للوسطية والانفتاح والتنوع.
البعد الإفريقي والدولي: إشعاع يمتد ويتجدد
الرسالة الملكية، وهي توجه إلى العلماء، تدعو أيضاً إلى جعل المناسبة منبراً لتعزيز العلاقات الروحية والثقافية مع العمق الإفريقي، عبر مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وهو ما يُعيد المغرب إلى موقعه التاريخي كجسر حضاري بين شمال القارة وجنوبها، وكمرجعية دينية ذات مصداقية عالية، تبحث عنها المجتمعات الإفريقية التواقة إلى الإسلام الروحي والعملي، المتجذر في القيم المحلية دون انفصال عن الأصول.
إن الرسالة الملكية، في بعدها الزمني والديني والسياسي، ليست مجرد خطاب مناسباتي، بل مشروع استراتيجي لبناء مجتمع الإيمان والوعي، وتعزيز السلم الروحي، وتجديد العلاقة بالرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره القدوة والمنهاج، لا فقط رمزية دينية.
هذه الرسالة السامية تدعو المؤسسات الدينية، والإعلامية، والتعليمية، والثقافية، وكل الفاعلين، إلى جعل الاحتفال بهذه الذكرى المجيدة مناسبة لبناء مشروع حضاري متجدد، يقود الأمة نحو مزيد من التزكية، الوحدة، والخدمة العامة، تحت راية إمارة المؤمنين، بما تُمثله من ضمانة لحماية الدين، وصون الأمن الروحي، والحفاظ على هوية مغربية موحدة في الداخل والخارج.