
لفهم المواقف الغربية، وخاصة الأمريكية والبريطانية، الداعمة لقيام دولة إسرائيل واستمرار دعمها سياسياً وعسكرياً حتى اليوم، لا يكفي الاقتصار على التحليلات الجيوسياسية أو المصالح الاستراتيجية. فثمة بُعد ديني عميق، متجذّر في الفكر البروتستانتي، لعب دوراً محورياً في تشكيل التصورات والمواقف تجاه اليهود، وأثر بشكل مباشر في سياسات التوطين والدعم الممنهج منذ القرن التاسع عشر وحتى اللحظة الراهنة.
البروتستانتية، التي نشأت في أوروبا في القرن السادس عشر، ليست طائفة موحدة بل حركة إصلاحية دينية قامت على رفض سلطة البابا الكاثوليكي، والدعوة إلى العودة للنصوص الأصلية للكتاب المقدس، وبخاصة العهد القديم المكتوب بالعبرية. ويُعتبر مارتن لوثر مؤسس هذه الحركة، التي ما لبثت أن تطورت إلى طيف واسع من الكنائس والمذاهب، أبرزها اللوثرية، والكالفينية، والأنغليكانية، ولاحقًا الكنائس الإنجيلية والخمسينية.
تتميّز العقيدة البروتستانتية، وخاصة في تياراتها الإنجيلية، بإيمانها العميق بأن الكتاب المقدس – بعهديه – هو المرجع الوحيد للعقيدة، وبأن النبوءات الواردة في العهد القديم لا تزال فعالة، وتتحقّق في التاريخ المعاصر. من هذا المنطلق، نشأ تيار لاهوتي واسع يُعرف باسم “الصهيونية المسيحية”، يرى أن عودة اليهود إلى “أرض الميعاد” (فلسطين التاريخية) ليست فقط حدثاً تاريخياً أو سياسياً، بل تحقيقاً لنبوءات إلهية يجب أن يدعمها المؤمنون تمهيداً لـ”العودة الثانية للمسيح”.
وقد تبلورت هذه الرؤية في بريطانيا القرن التاسع عشر، حين كان البروتستانت يشكلون غالبية النخبة السياسية والفكرية. فكانت “النبوءة” التوراتية حاضرة في وجدان الساسة ورجال الدين معاً، ومهّدت الأرضية اللاهوتية لوعد بلفور عام 1917، الذي نصّ على دعم بريطانيا لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. الوعد لم يكن قراراً سياسياً معزولاً، بل نتيجة تراكم ديني وثقافي ساهمت فيه الكنائس البروتستانتية البريطانية بشكل مباشر.
وفي الولايات المتحدة، حيث يشكل البروتستانت أغلبية المسيحيين، خاصة التيار الإنجيلي، استمر هذا التوجّه بل تصاعد، وبلغ ذروته في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد تبنّى العديد من الرؤساء الأمريكيين، المنحدرين من خلفيات بروتستانتية، هذا التصور اللاهوتي تجاه إسرائيل، واعتبروا دعمها التزامًا دينيًا قبل أن يكون موقفًا استراتيجيًا. وقد لعبت جماعات ضغط دينية مثل “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” دوراً محورياً في ترسيخ هذا الارتباط، الذي تجاوز الحسابات السياسية ليُصبح جزءاً من العقيدة الدينية للتيار الإنجيلي، الذي يضم عشرات الملايين من الأمريكيين.
هكذا، تشكلت منظومة متكاملة ربطت بين اللاهوت البروتستانتي والفكر الصهيوني، وأعادت تفسير الوجود اليهودي في فلسطين كتحقيق لإرادة إلهية يجب تسهيلها، لا عرقلتها. وهذه النظرة تفسّر حجم الدعم المالي والعسكري والسياسي الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، والذي غالبًا ما يأتي مشفوعاً بخطاب ديني واضح في الأوساط الإنجيلية والسياسية المحافظة.
من هنا، فإن المشروع الصهيوني الحديث لم يكن محض حركة قومية يهودية، بل تقاطعًا مع تصورات لاهوتية بروتستانتية منحته غطاءً روحيًا ومبررًا سياسيًا في آن معًا. فقد تحوّلت “إسرائيل” في الوعي البروتستانتي من كيان سياسي إلى “علامة نبوية”، ومن مشروع استيطاني إلى تجلٍ لإرادة إلهية لا يجوز معارضتها. وفي هذا السياق، يصبح من الواضح أن دعم الغرب لإسرائيل، خاصة من بريطانيا سابقًا والولايات المتحدة حاليًا، لا ينفصل عن عقيدة دينية عميقة ترى في اليهود شعباً مختارًا، وعودتهم إلى الأرض المقدسة جزءًا من خطة الخلاص الإلهي.
بهذا الفهم، تصبح قراءة التاريخ الحديث للمنطقة، وسياسات التوطين والدعم، أكثر وضوحًا، حين يُنظر إليها من زاوية الفكر الديني لا السياسي وحده، حيث كان الدين – لا الاقتصاد أو الأمن فقط – هو المحرك الخفي والمعلن لكثير من القرارات المفصلية.