
بينما يواصل الفلسطينيون دفع ثمن الاحتلال دمًا ودمارًا، تخرج علينا من جديد خطابات تروّج لمشاريع “السلام” وكأنها مفاجآت سياسية، رغم أنها في جوهرها لا تحمل جديدًا. الإعلان الأخير عن خطة أميركية لإنهاء الحرب في غزة، والمواقف المرافقة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أعادتا فتح ملف “الدولة الفلسطينية” من بوابة الضبابية المقصودة والتلاعب اللفظي الذي بات سمة أساسية في كل ما يتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني.
نتنياهو، كعادته، حرص على استباق أي تأويل لخطة ترامب، فأكد صراحة وبلا مواربة: “لم أوافق إطلاقًا على إقامة دولة فلسطينية”، مضيفًا أن ذلك “لم يرد في الاتفاق”، وأن موقف حكومته هو “الرفض الشديد للدولة الفلسطينية”. ورغم أن الوثيقة التي أعلنها البيت الأبيض تتحدث في إحدى نقاطها العشرين عن إمكانية “تهيئة الظروف لمسار نحو تقرير المصير”، فإن الوضوح الإسرائيلي ينسف حتى هذا الاحتمال الرمزي.
الخطاب الذي يُسوّق دوليًا تحت شعار “السلام” لا يفعل سوى إخفاء الوجه الحقيقي للسياسات القائمة: استمرار الاحتلال، ترسيخ الاستيطان، وتحويل النقاش حول الدولة الفلسطينية إلى مجرّد شرطية غامضة تدور في حلقة مفرغة. يُقال إن الدولة “قد” تقوم، “إذا” تحقق الاستقرار، “حين” تنفذ إصلاحات معينة، “عندما” تقبل الأطراف بشروط الطرف الأقوى. هذا النمط من الخطاب لا يبني دولة، بل يشتري وقتًا، ويمنح شرعية مؤقتة لواقع دائم من السيطرة والعنف.
نتنياهو، في تصريحاته الأخيرة، لم يُخفِ الهدف الحقيقي من خطته: عزل حركة حماس، وفرض شروط إسرائيل كحلّ وحيد، تحت غطاء أميركي كامل. هو لا يتحدث عن حلّ سياسي يشمل الفلسطينيين كافة، بل عن نزع سلاح المقاومة، إبقاء الجيش الإسرائيلي في مواقع استراتيجية داخل غزة، ومنح الفلسطينيين “سلامًا” يُشبه الصمت الإجباري تحت الحصار.
في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وصف نتنياهو فكرة إقامة دولة فلسطينية بأنها “انتحار وطني”، مهاجمًا من وصفهم بـ”قادة غربيين” يعترفون بدولة فلسطين لأنهم -حسب قوله- “لا يمتلكون الشجاعة لمواجهة الإعلام المعادي لإسرائيل”. من هذا المنظور، لا يعود الاعتراف بدولة فلسطين حقًا مشروعًا لشعب محتل، بل يصبح تهمة وجُب التنصل منها. هكذا تُختزل الدولة الفلسطينية من مشروع تحرر وطني إلى خطر أمني يجب منعه بكل الوسائل.
أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فلم يخرج عن الخط المعتاد، بل أكمل حلقة التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل. في مؤتمره الصحفي، تحدّث عن “فرصة للسلام والازدهار في غزة”، لكنه لم يوضح كيف يمكن لذلك أن يحدث في ظل الاحتلال، ولا من الذي سيضمن الحقوق الفلسطينية. الحديث عن خطة بـ”20 نقطة” يبدو تقنيًا في ظاهره، لكنه في عمقه لا يحمل التزامات فعلية تجاه إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ذات سيادة، وعاصمتها القدس.
ما يجري اليوم يُعبّر عن لحظة سياسية فارقة: الخطاب الإسرائيلي لم يعد يُجمّل رفضه للدولة الفلسطينية، بل يُعلنه بوضوح، فيما يتم تسويق “خطط السلام” كأنها فرص تاريخية. هذا التناقض الصارخ يجب أن يثير قلق المجتمع الدولي، الذي يجد نفسه أمام مشهد تتحول فيه لغة السلام إلى غطاء ناعم لإدامة الاحتلال.
إن إعادة تدوير مفاهيم مثل “تقرير المصير” و”الانتقال التدريجي” و”إعادة إعمار غزة” دون ربطها برفع الحصار وضمان السيادة والحقوق، لن يُنتج دولة، بل يُطيل أمد الأزمة. المطلوب ليس تحسين شروط الاحتلال، بل إنهاؤه.
في مقابل هذا التلاعب السياسي، يستمر الفلسطينيون في دفع الثمن الأكبر. الحرب على غزة لم تتوقف، والضحايا ما زالوا يتساقطون، والمختطفون ما زالوا ورقة في يد الحكومة الإسرائيلية، التي تتحدث عن “حلول” لم تكن مستعدة لقبولها عندما كان بالإمكان إنقاذ أرواح كثيرة.
البيان المتزن الذي صدر عن حركة حماس، والذي أكد على دراسة الخطة بمسؤولية، وركز على رفع الحصار وضمان الحقوق، يعكس موقفًا واقعيًا ومسؤولًا، يضع الأسس الصحيحة لأي تسوية عادلة: لا وقف للمعاناة دون إنهاء الاحتلال، ولا سلام بلا عدالة.
الترويج لـ”دولة فلسطينية” مشروطة في سياق يُكرّس الاحتلال ليس سوى مراوغة سياسية. الدولة لا تُمنح بوعود غامضة، ولا تقوم على أنقاض الحقوق. ومَن يرفض مبدأ الدولة أصلًا، لا يمكن الوثوق بنيّته في تحقيق السلام.
العدالة في فلسطين لا تتحقق بالخطابات ولا بالخطط المسوّقة إعلاميًا، بل بتغيير الواقع على الأرض: إنهاء الاحتلال، احترام القانون الدولي، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير دون قيد أو شرط.
كإعلامي وكاتب من مغاربة العالم، ومهتم ومتابع للشأن العربي والفلسطيني، أرى أن ما يجري لا يمكن فصله عن مسار طويل من المراوغة السياسية التي تتخذ من “السلام” واجهة لتصفية الحقوق الأساسية لشعب يعاني منذ أكثر من سبعة عقود.