أخبار دولية

السودان في دوامة الدم والنار: الفاشر تفضح مأساة الحرب وصراع الجنرالات

منذ عقودٍ طويلة، يعيش السودان على إيقاع الأزمات، تتبدل فيها الوجوه وتبقى المأساة واحدة، تتلون بالسياسة تارة وبالقبيلة تارة أخرى، لكنها في جوهرها صراع على السلطة والنفوذ والثروة. فمنذ استقلال البلاد سنة 1956، لم يعرف السودان استقراراً حقيقياً، إذ توالت الانقلابات والحروب الأهلية حتى بلغ الصراع ذروته بانفصال الجنوب سنة 2011، غير أن الجراح التي خلّفها ذلك الانقسام لم تلتئم، لتعود البلاد بعد سنوات قليلة إلى أتون صراع أكثر عنفاً وتعقيداً.

في أبريل من عام 2023 اندلع النزاع الأكبر في تاريخ السودان الحديث بين القوات المسلحة بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ“حميدتي”، بعد خلافات حادة حول مستقبل المرحلة الانتقالية ودمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي. تحولت الخلافات إلى مواجهات دامية في العاصمة الخرطوم سرعان ما امتدت إلى دارفور وكردفان والجزيرة ومناطق أخرى، فانهارت مؤسسات الدولة وتحوّلت المدن إلى ساحات للدمار.

وفي خضم هذا الخراب، كانت دارفور مرة أخرى عنواناً للمأساة. فبعد شهور من المعارك الطاحنة، انسحب الجيش السوداني في أواخر أكتوبر 2025 من مدينة الفاشر، آخر معاقله الكبرى في الإقليم، لتسقط المدينة في يد قوات الدعم السريع. هذا التطور اعتبرته الأمم المتحدة تحوّلاً خطيراً يهدد بوقوع مجازر جديدة، وهو ما تأكد بعد أن نشرت تقارير إعلامية وحقوقية صوراً مروعة لجثث المدنيين ملقاة في الشوارع، ووثقت الأقمار الصناعية مشاهد انتشار الموت في أحياء الفاشر التي كانت يوماً نابضة بالحياة.

المصادر المحلية أكدت أن مئات القتلى ما زالوا في الطرقات، وأن فرق الإغاثة عاجزة عن الوصول إليهم بسبب القصف المتواصل وانعدام الأمان. انقطعت الكهرباء والمياه، نفدت الإمدادات الطبية، وبدأت رائحة الموت تعبق في الهواء، وسط تحذيرات من كارثة صحية قد تضرب الإقليم نتيجة تعفن الجثث وتلوث مصادر المياه. آلاف العائلات فرت إلى المناطق الحدودية، تاركة خلفها منازل مدمرة وذكريات من الخوف والدموع.

ورغم الدعوات الأممية والدولية إلى وقف إطلاق النار، فإن طرفي الصراع ما زالا متمسكين بخيارات الحرب، كلٌّ يرى في التراجع هزيمة وفي التسوية خضوعاً. أما المدنيون، فهم الضحية الكبرى، يدفعون ثمن صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل، بعدما فقدوا الأمن والبيوت والأمل. المجتمع الدولي يكتفي بالتحذيرات، فيما تتواصل المعاناة في غياب إرادة حقيقية لإنقاذ ما تبقى من السودان.

لقد تجاوزت مأساة الفاشر حدود السياسة والجغرافيا لتصبح جرحاً إنسانياً مفتوحاً في ضمير العالم. صور الأقمار الصناعية التي أظهرت جثث الأبرياء في الشوارع لم تكن مجرد دليل على فظاعة الحرب، بل صفعة أخلاقية لكل من صمت أو تواطأ أو تهاون في حق هذا الشعب. السودان اليوم يقف على حافة الانهيار الكامل، تتنازعه قوى السلاح وتطحنه آلة العنف، فيما يبحث أبناؤه عن بصيص ضوء في نفقٍ لم يعد له نهاية واضحة.

ومهما اشتدّ ظلام الحرب، يبقى الأمل قائماً بأن تفيق الضمائر، وأن يدرك الجميع أن لا غالب في هذه الحرب سوى الموت، ولا منتصر سوى الخراب. فالسودان، برغم الجراح، يستحق الحياة، ويستحق أن يعود وطناً آمناً تسكنه العدالة بعد أن أثقله ظلم السلاح وسوء الطغاة.

جواد مالك

مدير عام و رئيس تحرير جريدة أهم الأخبار الدولية. أمين عام الإتحاد الدولي للشعراء والأدباء العرب (فرع المملكة المغربية). أمين سر منظمة أواصر السلام العالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا