خدمة مميزة يقدمها الاتحاد لأعضائه:
صمم موقعك باحترافية وابدأ رحلتك الرقمية اليوم

اضغط على الصورة للتفاصيل
إعلان
إعلان منبثق
منوعات

الشدة المستنصرية

جواد مالك

الشدة المستنصرية واحدة من أشد الكوارث التي مرت بمصر في تاريخها، حيث واجهت البلاد مجاعة مدمرة استمرت لمدة سبع سنوات خلال فترة حكم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، الذي امتد من عام 427هـ إلى 487هـ. بدأت هذه الكارثة في عام 457هـ واستمرت حتى 464هـ، وكانت نتيجة لتضافر عوامل طبيعية وسياسية واقتصادية. أورد المؤرخ المقريزي أسباب هذه الشدة في كتابه “اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا”، مشيرًا إلى أن انخفاض فيضان النيل لعدة سنوات كان السبب الأساسي، مما أدى إلى تراجع المحاصيل الزراعية وارتفاع الأسعار. ومع ضعف الدولة وانعدام الأمن، انتشرت الفوضى وعمت المجاعة.

كان الوضع السياسي في الدولة الفاطمية خلال تلك الفترة مضطربًا، حيث تنازع الوزراء والقادة العسكريون على السلطة، وانقسم الجيش الفاطمي إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الأتراك، الذين تمركزوا في شرق البلاد وسعوا للسيطرة على المناطق الحيوية القريبة من العاصمة، والمغاربة، الذين سيطروا على غرب البلاد واستغلوا الفوضى للاستيلاء على مواردها، والسودانيون، الذين تمركزوا في الجنوب وفرضوا سيطرتهم على النوبة والصعيد. أدى هذا الانقسام إلى غياب السلطة المركزية، وانعدام الأمن، وتوقف التجارة بين الأقاليم المختلفة، مما ساهم في تعميق الأزمة وإطالة أمدها.

في بداية حكم المستنصر بالله، كان الوزير “جرجرائي” يتولى إدارة شؤون الدولة، وقد نجح لفترة في الحفاظ على الاستقرار. إلا أن الأمور تغيرت بعد وفاته، حيث تولى الوزارة الوزير “اليازوري”، الذي كان يتمتع بنفوذ كبير لكنه أدار شؤون الدولة بأسلوب تسلطي أثار استياء الخليفة وأمه السيدة “رصد”. ومع تفاقم الأزمة، قرر الخليفة المستنصر التخلص من اليازوري، فأمر بإعدامه في عام 450هـ. وقد تم تنفيذ الإعدام بقطع رأسه على يد السياف في حضور الخليفة.

بعد مقتل اليازوري، تنافس عدد من الوزراء على السلطة، لكنهم فشلوا في تحقيق الاستقرار. كانت والدة الخليفة المستنصر تلعب دورًا كبيرًا في إدارة الحكم، حيث تدخلت في تعيين وعزل الوزراء وفقًا لرغباتها، مما أدى إلى تعيين أشخاص غير أكفاء زادوا من تفاقم الأوضاع. في ظل هذه الفوضى، عانت البلاد من نقص حاد في الموارد الغذائية، وارتفعت الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة.

يروي المقريزي قصصًا مروعة عن تلك الفترة، حيث أكل الناس الكلاب والقطط، وكان الكلب يُباع بخمسة دنانير والقطة بثلاثة. وعندما نفدت هذه الموارد، بدأ الناس يأكلون جثث الموتى، بل ووصل الحال إلى أكل بعضهم بعضًا. ومن بين القصص المؤلمة، يُحكى أن امرأة كانت معها قطعة لحم، وعندما سُئلت عن مصدرها، قالت إنها لحم ابنها الذي قتلته لتطعم ابنتها. كما انتشرت طوائف على الطرقات تحمل السكاكين لخطف المارة وذبحهم وأكلهم. خلت القاهرة ومصر من سكانها، وسقطت الدور والقصور بعدما مات أهلها جوعًا، وبيعت المنازل الفاخرة بثمن بخس.

استمرت هذه الكارثة حتى أرسل الخليفة المستنصر بالله إلى القائد العسكري “بدر الجمالي”، واستدعاه من الشام لتولي الوزارة. وصل بدر الجمالي إلى مصر ومعه قواته الخاصة، فتمكن من فرض النظام والقضاء على الفتن الداخلية. أعاد تنظيم الجيش، وأمن الطرق، وأصلح النظام الزراعي، ووزع الأراضي على الفلاحين، مما أدى إلى عودة الحياة تدريجيًا وزوال الشدة المستنصرية.

تمثل هذه الحادثة مثالًا مأساويًا على تأثير سوء الإدارة السياسية في تفاقم الكوارث الطبيعية. فبينما كان نقص فيضان النيل السبب الرئيسي للأزمة، لعبت الانقسامات السياسية، وضعف الوزراء، وتدخلات والدة الخليفة دورًا كبيرًا في تعميق معاناة الشعب. لقد تركت الشدة المستنصرية أثرًا عميقًا في تاريخ مصر، وأصبحت درسًا قاسيًا حول أهمية الإدارة الجيدة في مواجهة الأزمات.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من اهم الاخبار

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا