
كأنّ الكوكب كلّه يمسك أنفاسه. المدن تترقّب إشارةً خفيّة من السماء، والأمم تُعيد حساباتها كمن يسمع دقّات الساعة الأخيرة. لم يعد العالم كما نعرفه، بل كما يُعاد تشكيله من وراء الستار؛ حيث تتداخل السياسة بالعقيدة، والمال بالمعنى، والتاريخ بالمصير.
منذ أن قال الله تعالى في محكم تنزيله: «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا»، ظلّ التاريخ يرقص على إيقاع التيه والعودة. والآن، بعد آلاف السنين، تُبعث تلك الآية من سباتها لتصبح مرآةً للعصر. بعض القراءات الحديثة تجرؤ على ربط نهايات هذا التيه بعام 2027، في رؤيةٍ تصوّر العالم مقبلاً على تصفية حساباته الروحية والتاريخية. غير أنّ جوهر النص القرآني لا يتحدث عن التاريخ بقدر ما يُحذّر من النمط المتكرر: فسادٌ يعقبه عقاب، ثم توبةٌ تمهّد لرحمةٍ جديدة. إنّه قانون الله في الأمم، لا موعده في التقويم.
في الجهة الأخرى من الكوكب، تتجمع الغيوم فوق بحر الصين الجنوبي، حيث تلوح تايوان كجمرةٍ صغيرة قادرة على إشعال حربٍ عالمية ثالثة. كلّ التقديرات الاستراتيجية تشير إلى أنّ أول رصاصة هناك قد تفتح أبواب الجحيم. تقارير مراكز الأبحاث الأمريكية تتحدّث عن خسائر بالملايين، وسفنٍ تغرق، واقتصاداتٍ تنهار. لكنّ الحقيقة الأدهى أنّ الحرب ربما بدأت فعلاً، لا بصاروخٍ ولا بمدفع، بل في غرف السيليكون، على شاشات الذكاء الاصطناعي، وفي أسواق المال. إنّها حربٌ صامتة تسبق العاصفة.
في نيويورك تُباع العقود الآجلة للذهب بأرقامٍ لم تُسجّل منذ نصف قرن، وفي بكين تُعقد اجتماعات مغلقة للبحث عن نظام تسويةٍ جديد يُخفي في طيّاته ثورة صامتة ضد الدولار، بينما في القدس يُعاد استحضار النبوءات القديمة على ألسنة السياسيين كما على منابر الوعظ. إنّها لوحةٌ واحدة بألوانٍ مختلفة.
وفي صمتٍ أشدّ، تتهادى العملات وتسقط كأوراق الخريف، فيما يعلو بريق الذهب كأنه المخلّص الأخير. فالبنوك المركزية تشتريه بنهمٍ غير مسبوق، وكأنها تستعد لليلةٍ طويلةٍ تنقطع فيها الكهرباء عن النظام المالي العالمي. ما يُقال في العلن هو أنه “تنويع للاحتياطات”، أما ما يُخفى فهو إدراك عميق بأن النظام القائم على الدولار بدأ يتصدّع من الداخل. إنّ الذهب اليوم ليس مجرّد معدن، بل شهادةُ عدمِ ثقةٍ بالنظام القديم.
تتسرب من خلف الكواليس مشاريع تغيّر وجه العالم المالي: عملات رقمية سيادية، وتحالفات سرّية بين الشرق والجنوب، ومؤتمرات مغلقة تبحث في “اليوم التالي للدولار”. في العلن يتحدثون عن التقنية، وفي الخفاء يُعاد رسم موازين القوة. لم يعد السؤال “هل سيتغير النظام؟” بل “متى سينهار القديم بالكامل؟”.
وفي حين ينشغل السياسيون بالتحالفات، ينسج الناس على الإنترنت خيوط نظريات المؤامرة، وكأنهم يعوّضون غياب الحقيقة بالخيال. غير أنّ بعض هذه النظريات ليس وهماً كاملاً، بل ظلٌّ لحقيقةٍ جزئية. فالتاريخ مليء بالاتفاقات السرية، والمصالح الخفية، والتواطؤات التي غيّرت مصائر شعوب. إلا أنّ المؤامرة الكبرى ليست في الاجتماعات المغلقة، بل في صمت الشعوب حين يُسرق وعيها باسم الحرية، ويُعاد تشكيلها باسم النظام العالمي الجديد.
من وراء المشهد، يتحرّك نظامٌ خفيّ لا تراه العيون. خبراء الاقتصاد يسمّونه “التبادل غير المتكافئ”، حيث تنزف ثروات الجنوب لتُغذّي رخاء الشمال. ومفكرو النظم يسمّونه “الهشاشة البنيوية” — شبكةٌ من الاعتماد المتبادل يمكن أن تنهار بتغييرٍ صغير. هكذا تسقط الإمبراطوريات: لا بالضربة القاضية، بل بانهيار خيطٍ في نسيجٍ واهٍ.
وفي خضمّ هذا الاضطراب، تتلاقى نبوءات الديانات الإبراهيمية كأنها تعزف لحن النهاية نفسها. ففي الإسلام تُذكر الملحمة الكبرى، والمسيح الدجال، وعيسى بن مريم الهابط بالسلام بعد الفتنة العظمى. وفي المسيحية تتجلّى “هرمجدون” كرمزٍ للصراع الأخير بين النور والظلام. وفي اليهودية يعود “جوج وماجوج” من أعماق الغيب ليملأ الأرض خوفاً قبل أن يعمّها سلام الرب.
غير أنّ المتأمل الفطن يدرك أن هذه النبوءات لا تروي موت العالم، بل ميلاده من جديد؛ وأنّ النهاية، في جوهرها، بدايةٌ أخرى على مستوى أعمق من الوعي الإنساني.
وحين ننظر حولنا، نرى إرهاصات هذا التحوّل في كل مكان: الذكاء الاصطناعي يبدّل مفهوم العمل والمعرفة، المناخ يختبر قدرة البشرية على البقاء، والسياسة تفقد معانيها القديمة أمام صعود التقنية والمال. وكل ذلك يحدث بسرعةٍ تحبس الأنفاس، كأنّ الزمن نفسه يسرّع خطاه نحو لحظةٍ فاصلة.
ما يجري ليس مؤامرةً واحدة ولا نبوءةً بعينها، بل منظومةُ تحوّلاتٍ مترابطة: حربٌ باردة جديدة تُدار بالبيانات لا بالقنابل، واقتصادٌ يهاجر من الورق إلى الشيفرة، وإنسانٌ يفتّش عن معنى وجوده في عالمٍ لم يعد يعرف الثبات.
إنّها لحظة “التيه العالمي” الثانية؛ لحظة يقف فيها البشر، كما في النصوص القديمة، بين طريقين: طريقٍ يقود إلى الفناء بالغرور، وآخر إلى النجاة بالإيمان والوعي.
فمن يقرأ العلامات لا ليخاف، بل ليتهيأ، يدرك أنّ التاريخ لا يعيد نفسه عبثاً، وأنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم.
وربما لا تكون النهاية في سقوط نظامٍ أو اندلاع حرب، بل في ولادة وعيٍ جديد يدرك أن النجاة لا تأتي من السلاح ولا من الذهب، بل من عودة الإنسان إلى إنسانيته. فالعصر القادم ليس عصر القوة، بل عصر الوعي، ومن فاته القطار سيتيه مرةً ثالثة في صحراء ذاته.











