في ظل النقاشات الدائرة حول التعديلات المقترحة على مدونة الأسرة المغربية، يبرز السؤال الأهم حول مدى انسجام هذه التعديلات مع أحكام الشريعة الإسلامية التي تُعد المرجعية الأساسية في قضايا الأسرة. تشهد هذه التعديلات جدلًا واسعًا، حيث يرى البعض أنها تتجاوز المبادئ الشرعية وتؤثر سلبًا على استقرار الأسرة المغربية. وبينما تهدف هذه الإصلاحات إلى تحقيق بعض المساواة بين الزوجين وضمان حقوق المرأة، فإن بعض النقاط المقترحة تشكل انحرافًا عن نصوص الشريعة وتثير تساؤلات حول تداعياتها القانونية والاجتماعية.
من بين البنود المقترحة السماح بعقد الزواج للمغاربة المقيمين بالخارج دون حضور شاهدين مسلمين في حال تعذر ذلك. هذا الاقتراح يتعارض مع حديث النبي ﷺ: “لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل” (رواه ابن حبان). الشاهدان العادلان شرط لصحة عقد الزواج، وإلغاؤهما يهدد بصحة العقود ويثير إشكالات شرعية واجتماعية. إن التغاضي عن هذا الشرط يعد تجاوزًا لما أقرته الشريعة الإسلامية من ضوابط تضمن صحة العلاقة الزوجية وتوفر الضمانات اللازمة لكلا الطرفين.
وفيما يتعلق بتحديد سن الزواج في 18 عامًا كقاعدة عامة، مع السماح بزواج القاصر في سن 17 عامًا بشروط محددة، فإن الإسلام لم يحدد سنًا معينًا للزواج، لكنه اشترط البلوغ والنضج العقلي والجسدي استنادًا إلى قوله تعالى: “وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ” (النساء: 6). وضع قيود عمرية معقولة قد يكون مقبولًا في إطار المصلحة المرسلة، لكن هذه القيود يجب أن تراعي مقاصد الشريعة وألا تحول الزواج إلى عملية قانونية معقدة.
أما فيما يخص اشتراط المرأة في عقد الزواج عدم التعدد، وتقييد التعدد بحالات استثنائية، مثل العقم أو المرض المانع من المعاشرة، فإن هذا الاقتراح يخالف صريح النصوص الشرعية التي أباح الله فيها التعدد بقوله: “فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ” (النساء: 3). التعدد حق شرعي للرجل، ولا يجوز وضع قيود تعجيزية عليه أو الحد من مشروعيته. ورغم جواز اشتراط المرأة عدم التعدد في عقد الزواج، فإن الشريعة تجعل هذا الشرط اختياريًا، وليس إلزاميًا، وبالتالي فإن فرض هذا الشرط أو تقييد حق التعدد قانونيًا يعد تدخلًا مخالفًا للشرع.
هذه القيود قد تؤدي إلى تأثيرات نفسية واجتماعية على الرجال، حيث تمس بكرامتهم ونخوتهم، وقد تجعل الكثير منهم يعزفون عن الزواج خشية القيود القانونية والإجراءات التعجيزية. كما أن الضغوط النفسية الناجمة عن الشعور بالاغتراب عن القيم الشرعية قد تدفع بعض الأفراد إلى البحث عن هوية عقدية أو اجتماعية، مما قد يؤدي في بعض الحالات إلى السقوط في التطرف الفكري والديني .
فيما يتعلق بالحضانة، فإن التعديل المقترح بعدم سقوط حضانة الأم بزواجها يتعارض مع الحديث النبوي الشريف: “أنتِ أحقُّ به ما لم تَنكِحي” (رواه أبو داود). الشريعة الإسلامية تسقط الحضانة عن الأم إذا تزوجت حفاظًا على مصلحة الطفل، وتجنبًا لأي تأثيرات سلبية قد تترتب عن دخول زوج أجنبي إلى الأسرة. أي تعديل يخالف هذا الحكم قد يؤدي إلى إخلال بمصالح الطفل واستقرار الأسرة.
أما بخصوص بيت الزوجية، فإن التعديل الذي يمنح أحد الزوجين الحق في الاحتفاظ بالسكن بعد وفاة الآخر دون قسمة التركة يخالف أحكام الإرث القطعية. قال الله تعالى: “لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ” (النساء: 7). التركة تُقسم بين الورثة وفقًا للأحكام الشرعية، وأي استثناء قد يؤدي إلى حرمان الورثة من حقوقهم التي شرعها الله. يمكن تنظيم هذا الأمر من خلال وصية شرعية بموافقة جميع الورثة، لكن فرض الاحتفاظ بالسكن قانونيًا يتعارض مع مبادئ العدل التي أقرها الإسلام.
وفي موضوع الإرث، طرحت إمكانية تمليك التركة للزوجة أو الهبة بين الزوجين عند اختلاف الدين. هذه التعديلات تخالف القاعدة الشرعية التي تمنع التوارث بين المسلم وغير المسلم، كما في حديث النبي ﷺ: “لا يرثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ” (رواه البخاري). أما الهبة والوصية، فهما جائزتان شريطة عدم استخدامهما كبديل للإرث بشكل يخل بالعدالة الشرعية.
إصلاحات مثل اعتماد الوسائل الإلكترونية لتبليغ قضايا الطلاق أو تسريع إجراءات الفصل فيها يمكن أن تكون متوافقة مع الشريعة الإسلامية إذا تم ضبطها بما يحقق العدالة ويحفظ الحقوق. الشريعة لا تمنع استخدام الوسائل الحديثة ما دامت تضمن المصلحة العامة ولا تخل بالمنظومة الشرعية.
في ضوء هذه التعديلات، يصبح من الضروري التأكيد على أن أي إصلاح قانوني في مجال الأسرة يجب أن يكون منسجمًا مع أحكام الشريعة الإسلامية ونصوصها القطعية. تجاوز هذه النصوص قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الأسرة وخلق فجوة بين المجتمع وهويته الدينية. الإسلام وضع أسسًا متينة لحماية الأسرة وتحقيق العدل بين أفرادها، وأي تعديلات ينبغي أن تسير في هذا الإطار دون الإخلال بمقاصد الشريعة. الأسرة ليست مجرد علاقة قانونية، بل هي أساس بناء المجتمع، واستقرارها يعتمد على تحقيق التوازن بين مستجدات العصر وأحكام الإسلام.
ومن جهة أخرى، لا يمكن إغفال أن المدونة السابقة في صيغتها القديمة قد أسفرت عن ارتفاع ملحوظ في معدلات الطلاق بين الأزواج، وهو ما يشير إلى ضرورة إعادة النظر في بعض بنودها. كانت المدونة السابقة تهدف إلى تحقيق بعض الحقوق للمرأة، لكنها في بعض جوانبها فشلت في الحفاظ على توازن الأسرة. الإصلاح الحقيقي ينبغي أن يراعي مقاصد الشريعة في الحفاظ على استقرار العلاقة الزوجية ويضمن حقوق جميع الأطراف دون التسبب في تفكيك الأسرة. كان الأجدر إصلاح المدونة بنصوص تراعي مصلحة الأسرة ككل وتحفظ حقوق الزوجين بشكل متوازن.
وفيما يتعلق بمسألة الولاية، فإن الشريعة الإسلامية تشترط أن تكون الولاية على الأبناء مشتركة بين الزوجين، ويجب أن تكون مقيدة بشروط تضمن مصلحة الأبناء وتجنب الخلافات. من بين هذه الشروط، ينبغي أن يتم التنسيق بين الزوجين قبل اتخاذ قرارات حاسمة مثل السفر خارج البلاد. هذا الأمر ضروري لضمان توافق الأبوين وحمايتهما لمصلحة الأبناء. الإسلام يدعو دائمًا إلى التعاون بين الزوجين في رعاية الأسرة وحمايتها من الخلافات التي قد تضر بمصلحة الأبناء.
إصلاح مدونة الأسرة يجب أن يظل ضمن الإطار الشرعي الذي يحفظ كرامة الأفراد ويضمن استقرار الأسرة، ويعزز من تماسك المجتمع ككل.