
في زمنٍ يُفترض أن نكون قد تجاوزنا فيه سلطة المظاهر، ما زال هناك من يمنح للحية سلطةً تتجاوز كونها مظهرًا دينيًا أو ثقافيًا، إلى أن تصبح أداة لممارسة الوصاية على العقول، واحتكارًا للمعرفة والحقيقة. إنها ليست أزمة لحية بحد ذاتها، بل أزمة فكرٍ يتوارى خلف اللحية، مدّعيًا امتلاك مفاتيح اليقين، بينما يرفض أدنى محاولة للتساؤل أو الخروج عن الخط المرسوم.
في بعض المجتمعات، ارتبطت اللحية بالصلاح والتقوى، وهذا لا بأس به إن ظل في إطاره الشخصي، كخيار تعبّدي أو قناعة دينية. لكن الإشكال يبدأ حين يتحوّل هذا الرمز إلى معيار يقيس به البعض إيمان الآخرين، وعقولهم، بل حتى حقهم في التفكير. من هنا تصبح اللحية، لا بوصفها شعراً على الوجه، بل خطابًا كامناً وراءها، أداة لإقصاء كل من يُحاول أن يفكر خارج المألوف.
العقل البشري وُجد كي يسأل، لا كي يُلقّن. لكنه في حضرة بعض اللحى، يصبح الاتّباع فضيلة، والتفكر جريمة، والبحث عن المعنى نوعًا من الكفر أو البدعة. يتم اختزال الدين في مجموعة من الشعائر والمظاهر، لا يُسمح لك أن تقترب منها بسؤال، أو أن تلامسها بعين النقد، حتى وإن كان نقدًا نابعًا من الإيمان ذاته.
وهنا تتجلى المفارقة الصادمة: التقوى ليست في طول اللحية، ولا في بياض الثوب، بل في نقاء السريرة وصدق المعاملة. فقد يحمل المرء لحيةً كثيفة، ويُردد أحاديث التُقى، بينما في قلبه حقدٌ دفين، وكراهيةٌ عميقة لآل رحمة، وقطيعةٌ لصلة الرحم، لا يعرف من الدين إلا قشره، ولا من الرحمة إلا اسمها. يتحوّل إلى راوي روايات، يُلقّن ما سمعه دون أن يعيه، يُكثر من الحديث عن الجنة، لكنه يسلك سُبل الجفاء والغلظة. فهل هذه هي التقوى؟ أم أن التقوى الحقّة ما وُجدت إلا في القلب، وظهرت في الفعل، لا في المظهر؟
إن هذا النمط من التفكير، لا يُعطّل العقل فحسب، بل يُصنّف الناس وفق مظاهرهم، لا وفق عقولهم أو قيمهم. فنجد من يُلقب بـ “الشيخ” فقط لأنه أطلق لحيته وارتدى جلبابًا، بينما تُغلق الأبواب أمام من يمتلك العلم والمنطق، لمجرد أنه اختار أن يفكر بصوتٍ مختلف.
والمفارقة الأعظم أن من يُنصّب نفسه وصيًا على الحقيقة، يكفّر لنفسه ما يشاء، ويحلّل ما يشتهي، يُحرّم على غيره ما يُمارسه في الخفاء، بل قد يعيش في أرض يعتبرها “كافرة”، يتمتّع بحرياتها، ويستفيد من نظمها، ثم يُصدر أحكامه بأن أهلها في ضلالة، بينما هو وحده في النور. إنها الازدواجية التي تُفقد الخطاب الديني صدقه، وتحوّله إلى قناع لا يعكس جوهر الإيمان، بل يُستخدم كأداة لإقصاء الآخر وتبرير الذات. ما قيمة الحق إن كان يُستخدم سلاحًا للتمييز، لا جسرًا للفهم والتقارب؟
إن الأمر لا يختلف كثيرًا عند الحاخام في الكنيس أو بابا الكنيسة في الفاتيكان، لكن الفارق أن المجتمعات التي تجاوزت قمع الفكر، باتت تُدرك أن المظهر لا يصنع الحقيقة، وأن الرمز لا يعفي من المساءلة. أما عندنا، فما زالت “اللحية” في أذهان البعض، جواز عبور نحو القداسة، ولو على حساب العقل والوعي.
نحن بحاجة إلى ثورة فكرية هادئة، لا تُعادي المظهر، ولكنها تُعيد ترتيب الأولويات: أن يكون الإنسان بعقله أولًا، لا بلحيته. أن يُحترم لأنه يفكر، لا لأنه يتبع. أن نُعيد للدين جوهره القائم على الرحمة والعقل، لا القمع والتصنيف.
في النهاية، لن تُقاس القيم بطول اللحى، بل بعمق الأفكار، وصدق الإيمان، وسعة القلب.