
في خطوةٍ تعكس تحوّلًا محسوبًا في مقاربة واشنطن للملف السوري، أعلنت الإدارة الأمريكية عن تجديدٍ جزئي لتعليق بعض عقوبات “قيصر” لمدة 180 يومًا، لتفتح نافذةً سياسية واقتصادية جديدة تتجاوز الطابع العقابي البحت نحو “إدارة النفوذ” في سوريا. فالقرار لا يلغـي العقوبات، لكنه يعيد تعريف وظيفتها: من سلاحٍ للضغط إلى أداةٍ للضبط والمراقبة، وفق سلوك دمشق وشبكاتها الإقليمية.
واشنطن تغيّر الإيقاع:
لم تعد واشنطن تسعى إلى إسقاط النظام أو خنق الاقتصاد حتى الانهيار، بل إلى ترويض التوازنات داخل سوريا عبر سياسة “الجزرة المؤقتة”. فالتخفيف الجديد جاء مكمّلًا لخطوة مايو 2025 حين أصدرت الخزانة الأمريكية رخصة عامة تسمح بمعاملات إنسانية وتجارية محددة، قبل أن تُمدّدها الآن لستة أشهر إضافية.
القرار يحمل طابعًا مزدوجًا: فهو رسالة اختبار إلى دمشق لقياس مدى استعدادها للتعاون الأمني وضبط الحدود، ورسالة إلى موسكو وطهران بأن النفوذ في سوريا لم يعد حكرًا عليهما.
تأثير داخلي حذر:
اقتصاديًا، يُنتظر أن يخلق التمديد انفراجة جزئية في السيولة والحوالات، وأن يخفّض كلفة الاستيراد لبعض السلع الأساسية عبر القنوات القانونية، خصوصًا في مجالات الطاقة والبنية المدنية. لكنه لا يعني انفراجًا شاملاً؛ فالتعامل مع الكيانات المدرجة على قوائم العقوبات لا يزال محظورًا، ما يُبقي القطاع المصرفي السوري في حالة ارتيابٍ دائم.
ومع ذلك، يمكن القول إن هذه “الجرعة التنفسية” قد تمنح الحكومة السورية هامشًا مؤقتًا لتثبيت الأسعار وخفض الاعتماد على السوق السوداء، إن حَسُنَ توجيهها.
حسابات الجوار:
أما الجوار العربي، فينظر إلى الخطوة بقدرٍ من الأمل والحيطة. فكلّ من الأردن ولبنان والعراق وتركيا يراهن على انتعاش التجارة عبر الممرات البرية وعودة جزءٍ من التبادل النظامي، في حين تنتظر المصارف الإقليمية تعليمات دقيقة من الخزانة الأمريكية قبل إعادة فتح خطوط التمويل.
إنّ أيّ تسهيلٍ في حركة البضائع والطاقة بين دمشق وجيرانها سيُترجم فورًا في انخفاض التهريب وتحسّن الإغاثة الإنسانية، لكنّ “نافذة الستة أشهر” لا تكفي لتغيير جذري إن لم تُترجم بخطوات سياسية واقعية.
الأبعاد السياسية العميقة:
سياسيًا، تمثّل الخطوة اختبار ولاء وسلوك أكثر من كونها تنازلًا. فواشنطن تريد:
كبح تمدد النفوذ الإيراني والروسي دون مواجهة مباشرة.
ضمان استقرار الجنوب السوري ومنع التصعيد على حدود إسرائيل.
إدخال العواصم العربية في مسار انفتاح مشروط لا يشبه التطبيع الكامل.
إنه توازنٌ دقيق بين تخفيف الضغط الإنساني والإبقاء على المقود الأمريكي في إدارة الملف. فالتعليق المؤقت بمثابة “نظام مراقبة” يقيّم أداء دمشق كل نصف عام، ويمنح واشنطن هامشًا لتبديل العقوبات من جديد إن لزم الأمر.
المستقبل بين ثلاث احتمالات:
خلال الأشهر الستة القادمة، ستُراقب واشنطن ومؤسساتها المالية ثلاثة مسارات محتملة:
1. تحسّن مشروط في السلوك السوري يُترجم بتمديد أوسع.
2. جمود نسبي يفضي إلى تمديد شكلي بلا تغيّر جوهري.
3. انتكاسة أمنية أو سياسية تُعيد العقوبات الكاملة وتغلق الباب أمام أي انفتاح.
وفي كل الأحوال، يبقى القرار الأمريكي الأخير بداية مرحلة جديدة: مرحلة “التحكم بالتحكم”، حيث العقوبات لم تعد نهاية المطاف، بل أداة لتحديد شكل التسوية المقبلة في سوريا.







