وطنيةسياسة

المغرب على أعتاب زلزال سياسي يعيد رسم معالم الدولة الحديثة

المغرب يعيش هذه الأيام واحدة من أكثر اللحظات السياسية دقة منذ سنوات. فمنذ اندلاع موجة الاحتجاجات الشبابية قبل أيام، يتصاعد في المدن المغربية صدى أصوات جديدة، لا ترفع شعارات حزبية، ولا تبحث عن زعامة، بل تعبّر عن وجدان وطني مثقل بالخيبة من واقع اجتماعي خانق، واقتصاد متعب، ومؤسسات فقدت جزءًا من ثقة المواطنين.

الشباب الذين خرجوا إلى الشارع لم يكن وراءهم أي حزب أو تنظيم سياسي. لقد خرجوا لأنهم ببساطة لم يعودوا يثقون في الأحزاب السياسية ولا في جدوى خطابها، بعد أن تحولت في نظرهم إلى مؤسسات شكلية منشغلة بالمناصب أكثر من انشغالها بخدمة المواطن. ذلك الفراغ الحزبي هو الذي جعل الشارع يتحول إلى مساحة التعبير الوحيدة، وجعل جيلًا كاملًا من المغاربة يقول كلمته خارج كل الأطر التقليدية. إنه جيل جديد لا يطالب بالانتماء السياسي، بل بالمواطنة الكاملة، لا يبحث عن الشعارات، بل عن الأمل، ولا يريد الصدام مع الدولة، بل الإصلاح داخلها وبقيادتها.

في مقابل هذا الغليان، تقف المؤسسة الملكية كرمز للاستقرار والاتزان، تمارس صمتها الحكيم وتراقب المشهد بدقة بالغة. ففي تاريخ المغرب الحديث، كانت الملكية دائمًا الفاعل الحاسم حين تصمت المؤسسات، وصوت العقل حين يضيع توازن الدولة بين المطالب المشروعة ومخاطر الانزلاق. الملك محمد السادس لا يندفع نحو الخطاب الانفعالي، بل يختار لحظته بعناية. ومن يقرأ مسار حكمه منذ أكثر من عقدين، يدرك أن كل صمت ملكي هو مقدمة لقرار كبير، وأن كل خطاب يأتي بعد أزمة، يحمل في طياته تصحيحًا استراتيجيًا لا مجرد تهدئة ظرفية. ولهذا، فإن ما ينتظره المغاربة اليوم ليس مجرد خطاب ملكي، بل إعلان مرحلة جديدة من الإصلاح الحقيقي والمحاسبة الجادة.

الاحتجاجات الأخيرة لم تكن ثورة خبز، بل صرخة ضد الفساد واللامسؤولية. فقد فاض الكيل بالمواطن المغربي من مسؤولين حولوا المنصب العام إلى غنيمة، والمال العام إلى وسيلة نفوذ، والوعود الانتخابية إلى شعارات بلا مضمون. هذا الواقع الذي عاشه المغاربة بصمت لسنوات وجد اليوم من يعبّر عنه في الميدان. ولذلك، فإن اللحظة التاريخية التي يعيشها المغرب تُهيئ الأرضية لزلزال سياسي وأخلاقي حقيقي، لا يقتصر على التغيير الحكومي، بل يمتد إلى تفكيك شبكات الفساد الإداري والاقتصادي التي عطلت التنمية وأضعفت الثقة في الدولة. العدالة ليست مطلبًا شعبويًا، بل شرط بقاء الدولة الحديثة، والملك الذي طالما ربط المسؤولية بالمحاسبة يدرك أن استعادة ثقة المغاربة تمر عبر محاسبة من أساؤوا الأمانة مهما علت مناصبهم.

كل المؤشرات تفيد بأن تعديلًا حكوميًا كبيرًا يلوح في الأفق، لكن المطلوب اليوم ليس مجرد تغيير أسماء، بل إعادة بناء منظومة الحكم الإداري والسياسي على أساس الكفاءة والنزاهة. فالمرحلة القادمة تتطلب وزراء يعرفون الواقع كما يعرفون الملفات، يتحدثون لغة الشعب لا لغة المكاتب، يعملون بإخلاص لا بمنطق الصورة. تعديل الحكومة قد يكون بداية الطريق، لكنه لن يكون كافيًا ما لم يترافق مع إرادة سياسية واضحة في محاسبة المقصرين، وتجديد نخب الدولة من القاعدة إلى القمة.

إن سرّ قوة المغرب عبر التاريخ يكمن في مرونته السياسية تحت قيادة ملكية ثابتة وواعية. فالملكية المغربية لم تكن يومًا مجرد مؤسسة حكم، بل كانت روح الدولة وذاكرتها الجامعة، القادرة على الإصلاح من الداخل دون انكسار أو صدام. وفي هذه المرحلة الحساسة، تتجه الأنظار نحو الملك محمد السادس كقائد يملك القدرة على تحويل الغضب الشعبي إلى طاقة إصلاح وطني شاملة، تحفظ الاستقرار وتعيد الثقة، وتؤسس لجمهوريات صغيرة من العدالة داخل مؤسسات الدولة. المغاربة لا يبحثون عن صراع، بل عن إنصاف، ولا يطالبون بإسقاط المؤسسات، بل بتطهيرها من الذين أساؤوا إليها. وهذا بالضبط ما يجعل المؤسسة الملكية اليوم، أكثر من أي وقت مضى، رمز الوحدة والضمانة العليا لبقاء الدولة في مسارها السليم.

المغرب يقف اليوم على حافة منعطف تاريخي: فإما أن يكون الزلزال السياسي القادم زلزال تصحيح وبعث جديد، أو أن يُفوت فرصة نادرة لتجديد عقد الثقة بين الدولة والمجتمع. لكن المؤشرات كلها تقول إن الملك محمد السادس اختار طريق الإصلاح الهادئ العميق، القائم على العدالة والمحاسبة لا على الصدام والانقسام. ولهذا، فإن القادم لن يكون مجرد تعديل حكومي، بل إعادة تأسيس لدولة حديثة أكثر عدلًا، أكثر قوة، وأكثر قربًا من مواطنيها. فالمغرب، كما علّمنا تاريخه، لا يسقط في العواصف، بل ينهض منها أقوى، بقيادته، بشعبه، وبملكيته الراسخة.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا