
في عالم تزداد فيه أهمية الطاقة كأداة جيواستراتيجية، تتحول الأنابيب والصفقات الطاقية إلى أدوات تأثير لا تقل شأناً عن الجيوش والأساطيل. وفي غرب البحر المتوسط، حيث تتقاطع مصالح أوروبا مع شمال إفريقيا، برز المغرب كفاعل هادئ لكنه حاسم، يتقن فن التوازن بين المصالح دون الانخراط في مغامرات مكشوفة. فبينما غرقت الجزائر في توظيف الغاز الطبيعي كأداة ضغط على إسبانيا وأوروبا، بعد الأزمة التي فجرتها مدريد بإعلان دعمها لمبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية في مارس 2022، حافظ المغرب على سياسة واقعية ومرنة، استهدفت بناء علاقات طاقية بديلة وشراكات متعددة الاتجاهات.
ففي أعقاب القرار الجزائري بوقف ضخ الغاز عبر الأنبوب المغاربي الأوروبي المارّ عبر المغرب، تحركت الرباط بسرعة لإبرام اتفاق مع مدريد يقضي بإعادة ضخ الغاز في الاتجاه المعاكس، وهو ما أثار حفيظة الجزائر التي اعتبرته تجاوزًا “غير وديًا”. إلا أن المغرب استمر في تعزيز استراتيجيته الطاقية، معتمدًا على تنويع مصادره عبر اتفاقيات مع الولايات المتحدة، ونيجيريا، ودول الخليج، فضلاً عن رهانه الكبير على مشاريع الطاقات المتجددة، التي جعلت منه اليوم أحد رواد الطاقة الشمسية والريحية في القارة الإفريقية، كما تؤكد بيانات الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA).
وفي قلب هذه المعادلة، تنشط شركة “البيتروكيمياويات المغربية” ومجموعة “الطاقة الخضراء” في شراكات جديدة مع مستثمرين إماراتيين وصينيين، ضمن توجه استراتيجي يجعل المغرب بلدًا مصدرًا للطاقة النظيفة نحو أوروبا في المستقبل المنظور. ولعل مشروع أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، الذي يمتد عبر أكثر من 5600 كيلومتر، يترجم الرؤية الملكية في جعل المملكة منصة عبور استراتيجية للطاقة الإفريقية نحو أوروبا، وهو مشروع يحظى بدعم واسع من مؤسسات التمويل الدولية، كالبنك الإسلامي للتنمية والبنك الإفريقي للتنمية.
في المقابل، تعاني الجزائر، رغم وفرة احتياطاتها، من هشاشة في البنية الاستثمارية وتأرجح في الشراكات، بسبب توترات متكررة مع عواصم أوروبية، وغياب رؤية اقتصادية مستقرة، إضافة إلى أن اعتمادها الأحادي على الغاز يضعها في موضع ابتزاز متبادل أكثر من كونه شراكة متوازنة. ومن هنا، تظهر معالم الفارق في الرؤية: المغرب يبني شبكة توازن إقليمي برؤية استباقية، بينما تغرق الجزائر في ردود الفعل المرتبكة.
وإذا كانت أوروبا اليوم تعيد رسم خريطتها الطاقية على ضوء الحرب الروسية الأوكرانية، فإن المغرب يرسّخ مكانته كحليف استراتيجي موثوق، لا يملك فقط الموقع الجغرافي، بل أيضًا الاستقرار السياسي والبنية القانونية والمؤسساتية التي تجذب المستثمرين وتمنحهم الأمان. وهو ما يفسر، إلى حد بعيد، تصاعد النفوذ المغربي بهدوء، دون صخب، في معادلة الغاز والطاقة في غرب المتوسط.