
في خطوة تحمل أكثر من دلالة رمزية، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن رغبته في إعادة تسمية وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) باسمها القديم “وزارة الحرب”، وهو الاسم الذي تم التخلي عنه رسميًا عام 1947. وبينما تبدو الخطوة للوهلة الأولى مجرّد إجراء شكلي، فإن مضمونها يتجاوز الأبعاد الإدارية، ليحمل رسائل سياسية واستراتيجية واضحة، داخليًا وخارجيًا، خصوصًا في ظل تطورات الحرب على غزة وتعقيد المشهد الإقليمي.
يُقرأ هذا القرار في الأوساط السياسية والعسكرية الأميركية على أنه تعبير عن توجه نحو إعادة الاعتبار للجهوزية القتالية والوظيفة الهجومية للمؤسسة العسكرية، لا سيما في سياقات الصراع مع قوى دولية كروسيا والصين، لكن في الشرق الأوسط، لاقى القرار صدى آخر، أكثر مباشرة وتأثيرًا.
في إسرائيل، رحّبت دوائر أمنية وإعلامية مقربة من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بهذا التوجه، واعتبرته ترجمة عملية لمرحلة ما بعد “الدفاع”، أي مرحلة “الحسم”، وهو المفهوم الذي أصبحت تل أبيب ترفعه شعارًا لحربها المفتوحة على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023.
تزامن قرار ترامب مع ذروة التصعيد الإسرائيلي في غزة، حيث تخوض إسرائيل حربًا وُصفت بأنها الأطول والأكثر دموية في تاريخ المنطقة. وقد اعتبر مراقبون إسرائيليون أن إعادة تعريف البنتاغون كـ”وزارة حرب” يمنح غطاءً سياسيًا ومعنويًا إضافيًا لإسرائيل، ويعزز خطابها القائم على “القضاء الكامل على حماس” بدل التفاوض معها أو قبول تهدئة طويلة الأمد.
لا يخفي الإعلام الإسرائيلي أن هذا التغيير في اللغة السياسية الأميركية يتقاطع مع توجه الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، التي تعتبر أن الوقت الحالي هو الأنسب لتحقيق “نصر استراتيجي” يشمل تدمير البنية التحتية لحماس، وتصفية قياداتها داخل غزة وخارجها، وضرب شبكات الدعم الإقليمي للحركة.
اللافت أن خطاب “الحسم النهائي” الذي تروج له حكومة نتنياهو يتناقض مع الواقع الميداني، حيث لم تتمكن إسرائيل، بعد أكثر من 700 يوم من العمليات المكثفة، من حسم المعركة لصالحها. فبالرغم من التفوق العسكري والتكنولوجي، لا تزال حماس قادرة على المبادرة والتكيف، بل وحتى توسيع رقعة التأثير في الساحة الإقليمية.
هذا ما جعل المحللين العسكريين الإسرائيليين أنفسهم يتساءلون: هل القوة العسكرية، رغم تطورها، كافية لتحقيق النصر في صراع تتشابك فيه الجغرافيا مع الإيديولوجيا، والسياسة مع العقيدة؟
ضمن هذا التصعيد، باتت القيادات السياسية والعسكرية لحماس في الخارج هدفًا معلنًا للاغتيال الإسرائيلي، خاصة في ظل صعوبة تحييد البنية القيادية داخل غزة. وتروج المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لفكرة أن “مركز ثقل” الحركة بات خارجيًا، وأن استهدافه سيُضعف فعالية المقاومة ويفقدها القدرة على إدارة الصراع مستقبلاً.
هذا النهج يعكس تحوّل الحرب من مواجهة ميدانية داخل قطاع محاصر، إلى صراع مفتوح على ساحات متعددة، سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا، مما يضع مستقبل الاستقرار الإقليمي أمام سيناريوهات غير مسبوقة.
إن تغيير اسم وزارة الدفاع الأميركية إلى “وزارة الحرب”، في هذا التوقيت الحساس، يحمل دلالات رمزية لا يمكن تجاهلها. فهو يعكس تراجع مفردات التفاوض والتسوية، لحساب خطاب القوة والغلبة. ومع تصاعد الخطاب العدواني في المنطقة، من غزة إلى الضفة الغربية، ومن بيروت إلى طهران، يبدو أن المنطق العسكري يتقدم على كل محاولات الحلول السياسية، في سباق محفوف بالمخاطر.
إن أخطر ما في هذا المشهد ليس فقط الدمار وسقوط الضحايا، بل ترسيخ فكرة أن النصر لا يأتي إلا عبر القوة المطلقة، وأن لغة الحرب هي الأداة الوحيدة المفهومة في العلاقات الدولية. هذا التوجه، إن استمر، سيُفضي إلى تحطيم آخر ما تبقى من مساحات للتهدئة، وسيدفع الشعوب – وليس الأنظمة فقط – إلى الاصطفاف خلف مشاريع المقاومة، ما يُعيدنا إلى دائرة لا تنتهي من العنف والتطرف.
في هذا السياق، تبقى غزة العنوان الأكثر دلالة: مدينة محاصرة، لكنها تقف اليوم في مواجهة منظومة عسكرية تتحدث باسم “الحرب” وتغلق أبواب “الدفاع”.