
في زمنٍ كثُر فيه الجدل واشتدّ فيه الصراع على الحكم، كان بنو إسرائيل يرزحون تحت ثقل الخصومات وتقلّب النفوس، حتى بلغ نبيّهم مبلغ الكِبَر، وأحسّ أن أيامه أوشكت على الأفول، فخاف أن يترك قومه بلا من يقيم فيهم ميزان العدل بعده. جمعهم في يوم حاشد، وقد بدا التعب في صوته، وقال: “من يكفل لي أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب إذا خُوصم، أجعله خليفة عليّ بعدي.” عمّ الصمت المكان، وتبادلت العيون النظرات، فالشروط ثقيلة، والوفاء بها أشدّ. لكن فتى شابًا، هادئ القسمات، ثابت النظرة، تقدّم بخطى واثقة وقال: “أنا لها.” نظر إليه النبي متعجّبًا وقال: “إنك صغير.” فأجاب بثبات لا ارتعاش فيه: “أنا أقدر.” أعاد النبي سؤاله في اليوم التالي، ثم في الثالث، ولم ينهض غير ذلك الفتى، فولّاه أمر الناس، وحمل منذ تلك اللحظة اسمًا صار قدرًا: ذو الكِفل، لأنه تكفّل بما عجز عنه غيره.
لم يكن الحكم طريقًا مفروشًا بالراحة، بل توالت الخصومات، وتدفّق المظلومون والخصوم، وأحاط به الظالمون والمخادعون، ومع ذلك ظلّ أوفيًّا بعهدِه؛ يصوم نهاره، ويحيي ليله، ويكظم غيظه ولو اشتعل في صدره اشتعال النار. لم يكن ينام إلا قليلًا، فأوقات الراحة في حياته نادرة، حتى جاءه الشيطان من ذلك الباب الضيّق الذي لا يُغلقه إلا أشدّ الناس ثباتًا. جاءه في وقت قيلولته الوحيدة، طرق الباب بإلحاح، فقام ذو الكفل وقد أثقل الجسد التعب، ففتح له، فإذا رجل يشكو ظلمًا، فقضى له حقّه وحدّد له موعدًا يعود فيه مع خصمه. غاب الرجل، ثم عاد في اليوم التالي في الوقت ذاته، ثم في الثالث، ثم في الرابع، كل مرة في ساعة الراحة نفسها، كأنه يتعمّد إنهاك الجسد واستفزاز الغضب. وفي المرة الأخيرة، وقد بدا الإرهاق واضحًا في عيني النبي، قال له: “أما تخشى الله؟ ألا تجد وقتًا غير هذا؟” فتبسّم الرجل ابتسامة كشفت ما وراءها وقال: “أنا إبليس… جئت لأغضبك، فلم أستطع.”
عند تلك اللحظة، لم ينتصر ذو الكفل على عدوّ من لحم ودم، بل انتصر على أخطر عدوّ يسكن الإنسان: نفسه. فثبته الله، ورفع ذكره، وخلّده في آيات قليلة، لكنها أثقل من المطوّلات، حين قال سبحانه: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ﴾، وقال: ﴿وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ﴾. لم يذكر كم صلّى، ولا كم صام، ولا كم حكم بين الناس، بل اختصر كل ذلك في كلمة واحدة: الأخيار، وكأنما أراد الله أن يعلّم البشر أن العظمة ليست في الضجيج، ولا في المعجزات وحدها، بل في الصبر حين تفيض القدرة، وفي كظم الغيظ حين تكون القسوة أيسر، وفي العدل حين يسهل الظلم.
هكذا عاش ذو الكِفل، وهكذا مضى: نبيًّا بلا صخب، وبطلاً بلا استعراض، وصوتًا هادئًا في زمن العواصف، لكن أثره ظلّ ممتدًا في ضمائر الصابرين إلى آخر الزمان.











