
هناك لحظة في حياة الإنسان لا يعود فيها مجال للهدوء، ولا مساحة للتأمل، ولا وقت لإعادة الترتيب الداخلي. لحظة يُغلق فيها العقل أبواب السكون، ويفتح نوافذ الصراع على مصراعيها. هناك، بالضبط هناك، تولد “القوة باء”. هي ليست حالة للراحة، بل حالة للاشتباك. ليست لحظة صفاء، بل لحظة احتدام. حين تدخل “القوة باء” لا تعود تفكر بهدوء، بل تركّز بعنف، وتقرر بسرعة، وتتحرك دون تردد.
في هذه الحالة، يرتفع إيقاع العقل، ويتسارع النبض، ويضيق مجال الرؤية على هدف واحد: الفعل. يصبح الدماغ كغرفة عمليات طارئة، لا مكان فيها للتردد ولا للحنين ولا للأسئلة الوجودية. هنا لا تسأل: لماذا أنا هنا؟ بل تقول: ماذا أفعل الآن؟ من يدخل “القوة باء” يتحول إلى شخص عملي، مباشر، حاد، لا يجامل الواقع بل يصطدم به.
الغريب أن أغلب البشر يعيشون نصف حياتهم داخل هذه الحالة دون أن يسمّوها، ودون أن يفهموا قوانينها. العمل تحت الضغط، النقاشات الحادة، القلق على المال، الخوف من المستقبل، اتخاذ القرارات المصيرية، قيادة الحياة وسط الفوضى… كلها أبواب يومية إلى عالم “القوة باء”. هي حالة البقاء، حالة الدفاع والهجوم، حالة المواجهة مع ما هو قائم لا مع ما يُتمنى.
لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في دخول “القوة باء”، بل في الإقامة الدائمة فيها. لأن هذه الحالة، وإن كانت تمنحك سرعة، فإنها تسلبك البصيرة. تمنحك الحركة، وتأخذ منك العمق. تدفعك للإنجاز، لكنها تزرع فيك التوتر بصمت. من يعيش طويلًا في “باء” ينجح ظاهريًا، لكنه ينهار داخليًا دون أن يفهم لماذا صار سريع الغضب، قليل النوم، مشتت القلب، مرهق الروح.
أما الاستفادة الذكية من “القوة باء” فلا تكون بمقاومتها، بل بتوجيهها. حين تدخل هذه الحالة، لا تترك عقلك يعمل بعشوائية، بل اجعله آلة دقيقة لأمر واحد فقط. لا تُدخل عشر مشاكل دفعة واحدة إلى ساحتك الذهنية، بل اختر معركة واحدة. قرار واحد. مهمة واحدة. خطوة واحدة. لأن “القوة باء” لا تحب التعدد، بل تتفوق في الحسم.
وحين تشعر أن التوتر بدأ يتحول إلى فوضى داخل صدرك، وأن التفكير صار دائريًا لا يقود إلى نتيجة، فاعلم أنك تجاوزت حدّ الاستعمال ودخلت منطقة الاستنزاف. هنا بالذات يجب أن تنسحب، لا هروبًا، بل حفاظًا على السلاح. لأن من لا يخرج من “باء” يعود سهل الكسر، حتى لو بدا صلبًا.
“القوة باء” ليست عدوك، لكنها ليست صديقك الدائم أيضًا. هي جنديك في وقت المعركة، لا رفيقك في كل الأوقات. من يفهم هذا القانون، لا يعود عبدًا للضغط، بل سيدًا له. يدخل بيتا بإرادته، ويخرج منها بإرادته، فلا يحكمه القلق، ولا تسوقه الأعصاب، ولا يبتلعه الصراع.
وحين تجمع بين “القوة ألف” التي تزرع فيها ذاتك في العمق، و”القوة باء” التي تواجه بها واقعك في الخارج، تكون قد امتلكت أخطر تركيبة ذهنية يمكن لإنسان أن يصل إليها: عقل يهدأ ليبني، ثم يشتعل ليحقق، دون أن يحترق.











