
التلمود والقرآن الكريم هما نصان أساسيان في الديانتين اليهودية والإسلامية على التوالي، يمثل كل منهما تعبيراً عن تصور ديني شامل للكون، ولعلاقة الإنسان بالله، وللنظام الأخلاقي والاجتماعي الذي ينظم الحياة. رغم اختلاف أصولهما التاريخية والثقافية، إلا أن دراسة مقارنة معمّقة تكشف عن أوجه تشابه جوهرية وأخرى اختلافية تعكس الخصوصية العقائدية لكل شريعة.
التلمود، الذي تطور عبر قرون من الدراسة والتفسير في المجامع اليهودية، هو نص مركب يضم (المشناه) ، التي تمثل الشريعة الشفوية اليهودية، (والجمارا) ، التي تحتوي على التعليقات والتحليلات التفصيلية لهذه الشريعة. على العكس من ذلك، فإن القرآن نص موحى به من عند الله لا تدخل لأي بشري فيه، والكلمة النهائية الله عزل وجل ، نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة، فهو وحي مكتمل غير قابل للتعديل أو التحريف.
عند النظر في أوجه التشابه، يبرز التوحيد كعنصر مركزي في كلا النصين. التلمود يؤكد على وحدة الله وعدم وجود أي شريك له، وهو مفهوم يُتردد بقوة في القرآن الذي يصف الله عز وجل بأنه “أحد” و”صمد”، ويجعل من التوحيد الأساس لكل العقيدة الإسلامية. كلا النصين يشددان على أن الله هو المصدر الأعلى للسلطة والقانون، وأن جميع الشرائع مصدرها الوحي الإلهي.
فيما يتعلق بالقوانين، يتقاطع النصان في العديد من التشريعات، مثل تنظيم العلاقات الاجتماعية، وإرساء قواعد العدالة، وحماية الفئات الضعيفة. على سبيل المثال، يحتوي التلمود على تفاصيل دقيقة حول قوانين الزكاة والصدقة، وهي قضايا يتناولها القرآن أيضاً من خلال فرض الزكاة كركن أساسي للإسلام. بالإضافة إلى ذلك، كلا النصين يقدمان تعليمات واضحة حول الممارسات الدينية مثل الصلاة والصيام، مع اختلافات في التفاصيل والآليات.
على المستوى الاجتماعي، يولي التلمود والقرآن أهمية قصوى للعائلة باعتبارها وحدة أساسية في بناء المجتمع. في التلمود، توجد قوانين تفصيلية تتعلق بالزواج والطلاق وتربية الأطفال، وهي موضوعات يعالجها القرآن أيضاً، وإن كان بطريقة أكثر تركيزاً على المبادئ العامة، تُكملها السنة النبوية. يُلاحظ أيضاً التشابه في قوانين الذبح (كشروت في اليهودية والحلال في الإسلام)، حيث يشترط كلا النصين الذبح بالطريقة التي تُظهر الاحترام للحيوان وتلتزم بأحكام دينية صارمة.
ومع ذلك، تظهر اختلافات جوهرية تعكس طبيعة كل نص وتاريخه. التلمود ليس نصاً وحياً بالمعنى القرآني؛ فهو نتاج تفاعل فكري طويل بين علماء اليهودية، مما يمنحه طابعاً جدلياً وتحليلياً يعكس التنوع في الرؤى. في المقابل،
القرآن الكريم كلام الله. مباشر في أحكامه، يُقدّم حقائق وأوامر تُفسر في إطار ديني وروحي شامل، دون الحاجة إلى التأويل الجدلي المكثف الذي يميز التلمود.
القرآن الكريم يُعطي مكانة خاصة للشرائع السابقة، معترفاً بوجود التوراة والإنجيل كوحي سابق، لكنه يشير إلى وقوع التحريف في نصوصهما.
أما التلمود، من جانبه، فلا يعترف بالإسلام كدين لاحق، بل يُركز على بناء الشريعة اليهودية دون النظر إلى تطور الديانات الأخرى. هذا الاختلاف يعكس السياقات التاريخية التي نشأ فيها كل نص؛ حيث جاء القرآن كرسالة عالمية، بينما يعكس التلمود رؤية ديانة تخص بني إسرائيل.
من زاوية فلسفية، يقدم التلمود تصوراً أكثر انفتاحاً على النقاش والتفسير البشري، إذ يتيح لعلماء اليهودية مناقشة نصوص الشريعة وتطويرها ضمن إطار تقاليدهم. القرآن، بالمقابل، يُنظر إليه كرسالة كاملة ومطلقة، تجعل من الاجتهاد الفقهي وسيلة لتطبيق النصوص الإلهية في سياقات متغيرة، دون المساس بجوهر الوحي.
يمكن أيضاً ملاحظة اختلافات في الأسلوب الأدبي؛ فالتلمود يعتمد أسلوباً منهجياً وتفصيلياً، يعكس اهتماماً بالدقة القانونية.
أما القرآن الكريم ، فيتميز بأسلوب بلاغي قوي، يحمل طابعاً شعرياً في بعض الأجزاء، مما يمنحه تأثيراً روحياً ولغوياً عميقاً على قارئيه.
تمثل العلاقة بين التلمود والقرآن الكريم حالة فريدة من التفاعل الحضاري غير المباشر بين ديانتين تؤمنان بالإله الواحد. كلاهما يعكس رؤية متكاملة للحياة والدين، مع أوجه تشابه تعزز القيم الإنسانية المشتركة، وأوجه اختلاف تعبر عن تنوع التجارب الدينية والفكرية. هذا التباين والتقاطع يوفر فرصة لفهم أعمق للتراث الديني للبشرية، ويشجع على الحوار البناء بين الشرائع جميعها.