
يشكل الخطاب الملكي في افتتاح السنة التشريعية لحظة مفصلية في الحياة السياسية المغربية، ليس فقط لأنه يحدد أولويات المرحلة المقبلة، ولكن لأنه يعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس جديد من المسؤولية والفَعَّالية. ومع اقتراب نهاية الولاية الحكومية الحالية، يكتسب الخطاب بُعدًا إضافيا يرتبط بضرورة الإنتقال من حصيلة الإنجاز إلى فلسفة الإبتكار، ومن منطق تدبير الزمن السياسي إلى منطق إبداع الزمن العمومي. فالسؤال المطروح اليوم ليس ماذا أنجزت الحكومة، بل كيف يمكن أن تُبدِع في ما تبقى من ولايتها وتترك أثرا مؤسساتيا يتجاوزها.
إن مضمون الخطاب الملكي جاء ليؤكد أن المغرب يعيش مرحلة دقيقة من التحول، حيث لم تعُد الحلول التقليدية كافية لمعالجة التحديات الإقتصادية والإجتماعية. فالمطلوب اليوم هو إدخال روح جديدة في العمل العمومي، قائمة على الإبتكار المفتوح في اتخاذ القرار وفي صياغة السياسات العامة. وهذا المفهوم، الذي أضحى ركيزة في الإدارة الحديثة، يقوم على إشراك مختلف الفاعلين من باحثين، ومجتمع مدني، ومقاولات، وجامعات في إنتاج الحل العمومي، بدل أن يظل القرار حكرا على البنية الإدارية المغلقة.
إن حضور الشباب في معادلة الإصلاح لم يعُد خيارا، بل ضرورة وجودية لأي نموذج تنموي ناجح. فالشباب المغربي لا يمثل فقط طاقة ديموغرافية، بل يمثل أيضا خزانا للأفكار المبدعة وللكفاءات التقنية والمعرفية التي يمكن أن تسهم في إعادة تشكيل السياسات العمومية بروح العصر. ومن ثَمَّ، فإن تفعيل توجيهات الخطب الملكية يمر عبر تمكين هذه الفئة من المشاركة الفعلية في هندسة القرار العمومي، لا في هامشه، من خلال آليات تشاركية تتيح لهم اقتراح، تقييم، وتتبع السياسات العامة.
الإبتكار المفتوح في السياق المغربي يمكن أن يشكل مدخلا لإعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، بحيث لا يظل المواطن متلقيا للخدمة، بل مساهما في تطويرها وتقييمها. كما يمكن أن يكون وسيلة لإعادة الثقة بين المؤسسات والمجتمع، عبر الإعتراف بأن الذكاء الجماعي يشكل قوة قادرة على إنتاج الحلول بفعالية أعلى وتكلفة أقل. وفي العام الأخير من عمر الحكومة، تبدو الحاجة ماسة إلى هذه المقاربة، لأن الزمن السياسي الضيق لا يسمح بإصلاحات هيكلية عميقة، لكنه يسمح بابتكار طرق جديدة في العمل والتنسيق والإنجاز.
الخطاب الملكي دعا بشكل غير مباشر إلى هذه القطيعة الإيجابية مع الروتين المؤسساتي، من خلال التأكيد على أهمية الكفاءة والمردودية وربط المسؤولية بالمحاسبة. وهي إشارات تدفع نحو التفكير في أدوات جديدة للتنفيذ، تقوم على التجريب والتفاعل، لا على التكرار والإنتظار. فالحكومة في مرحلتها الحالية مطالبة بأن تتجاوز منطق نهاية الولاية إلى منطق البداية الجديدة، بأن تجعل من السنة الأخيرة مساحة لاختبار سياسات أكثر جرأة ومرونة، تُمهِّد لما بعد الولاية أكثر مما تُغلِقه.
يمكن للحكومة أن تترجم روح الخطاب الملكي عبر خطوات عملية تستحضر روح الإبتكار لا من زاوية شكلية بل من جوهر الحكامة. كأن تبادر إلى إنشاء فضاءات مشتركة بين الوزارات والجامعات المغربية لتطوير حلول رقمية وطنية للمشاكل الإدارية والإجتماعية، أو أن تُطلِق منصة وطنية مفتوحة لتلقي مقترحات المواطنين والخبراء حول السياسات العمومية، مع التزام فعلي بدراسة وتنفيذ ما يثبت جدواه. كما يمكنها أن تعيد هيكلة آليات التقييم عبر مراكز مستقلة تعتمد البيانات والذكاء الإصطناعي لقياس أثر البرامج الحكومية على حياة المواطن بشكل دوري وشفاف. هذه الممارسات لا تحتاج إلى وقت طويل، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية لتغيير طريقة التفكير في تدبير الشأن العام.
الإبتكار في نهاية الولاية ليس مغامرة سياسية، بل هو فعل مسؤول يربط بين الحصيلة والمستقبل، ويجعل من التجديد جزءا من الإستمرارية. فالدولة الحديثة لا تُقاس بعدد القوانين والمراسيم، بل بقدرتها على التعلم المؤسسي والتفاعل مع الواقع المتغير. ومن هنا تبرز قيمة الخطاب الملكي ليس فقط كحدث دستوري، بل كنداء نحو الإنتقال من الإدارة إلى القيادة، ومن التسيير إلى الإبداع، ومن الخطاب إلى الفعل.
إن المغرب اليوم أمام فرصة لبناء نموذج جديد في ممارسة السياسات العمومية، قوامه الثقة والإبتكار والإنفتاح. فإذا تمكنت الحكومة من تحويل ما تبقى من زمنها إلى مختبر وطني للسياسات المبدعة، فإنها لن تنهي ولايتها فحسب، بل ستؤسس لمرحلة جديدة من الوعي السياسي والإداري، تجعل من الإبداع سلوكا يوميا ومن الإبتكار ثقافة عمومية تعيد الثقة بين المواطن والمؤسسة، وتضع المغرب في مسار التنمية الذكية التي دعا إليها الخطاب الملكي بوضوح ومسؤولية.