
في بنية الخطاب البرلماني وأزمة المصداقية السياسيّة بالمغرب المعاصر
هل يمكن مساءلة الكلمة السياسية كما نُساءل القرار الإداري؟
وهل يحقّ لرمزٍ برلماني أن يتذرع بالمجاز في قضايا تمسّ الأمن القومي؟
هل ما زال الخطاب السياسي المغربي يمتلك القدرة على بناء الثقة، أم أنّه أصبح ينتج الأزمات أكثر مما يحلّها؟
هل تحتاج الديمقراطية المغربية إلى إصلاح في المؤسسات، أم في اللغة التي تتحدث باسمها؟
أولًا: حين تتحوّل اللغة إلى تهديد للأمن الغذائي
هل يمكن لعبارةٍ عابرةٍ في قبة البرلمان أن تخلخل ثقة أمةٍ كاملة في أمنها الغذائي؟
وهل يجوز لمن يتصدّر تمثيل الأمة أن يطلق اتهامًا بهذا الحجم دون أن يقدّر أثره الرمزي والسياسي؟
هذان السؤالان يختزلان جوهر “حادثة طحن الورق”، التي لم تكن مجرد زلّة لسانٍ برلمانية، بل لحظةً فاضحةً لانهيار معايير الخطاب السياسي الرشيد، وانكشافٍ لخللٍ بنيوي في آليات التواصل المؤسسي داخل التحالف الحكومي المغربي.
ثانيًا: اللغة كفعل سياسي لا كمجاز لغوي
عندما صرّح رئيس فريق برلماني بأنّ “مطاحن تطحن الورق وتخلطه بالدقيق”، لم يكن الأمر مجرّد خطأ تعبيري.
اللغة هنا فعل سياسي مُنتج للمعنى، وليست أداة بلاغية محايدة.
فكل خطابٍ برلماني يُبنى على شرعية رمزية، تجعل الكلمة فيه بمثابة قرارٍ رمزيٍّ مؤثّر في المجال العام.
إنّ تحويل مثل هذه الكلمة إلى “مجاز” بعد الضجة، هو تنصّل متأخر من مسؤولية المعرفة، قبل أن يكون تصحيحًا لغويًا.
فهل يمكن تبرير الإخلال بالثقة العامة تحت ذريعة المجاز؟
وأيّ أخلاقياتٍ للخطاب البرلماني تُجيز استعمال صورٍ تهزّ الأمن الغذائي ثم تُسحب بلطف لغوي متأخر؟
ثالثًا: بلاغة التراجع: من الاتهام إلى التنصّل
بيان التوضيح الصادر لاحقًا عن البرلماني المعني لا يقلّ خطورة عن التصريح نفسه.
إذ جاء بلغةٍ باردةٍ متعالية، تُحمّل الرأي العام مسؤولية “سوء الفهم”، وتُجرّد المتحدث من تبعات خطابه.
هذا النمط من التراجع لا يُعبّر عن نضجٍ سياسي، بل عن عجزٍ بنيوي في ثقافة المساءلة.
فالفاعل السياسي الذي يتحدث أمام الأمة ليس شاعرًا حرًّا، بل ممثلٌ مؤتمنٌ على الكلمة كأداةٍ للتشريع والمحاسبة.
فحين يُفرّغ الكلمة من دلالتها، يصبح البرلمان ساحة بلاغةٍ لا مؤسّسة رقابة.
فهل فقدت الكلمة السياسية وظيفتها الرقابية لصالح وظيفتها الإعلامية؟
أم أنّ الخطاب البرلماني المعاصر أصبح يلهث وراء “الترند” أكثر مما يسعى إلى كشف الحقيقة؟
رابعًا: الخطاب والسلطة: الارتباك كعلامة على غياب الإرادة
إنّ التراجع الغامض والمتعجرف، بعد ضجةٍ بلغت مستوى “التهديد الرمزي للأمن الغذائي”، ليس مجرّد حادثٍ لغوي، بل مؤشر خطير على انهيار استراتيجية التواصل السياسي في المغرب.
فبدل أن تكون الأزمة فرصةً لتفعيل الرقابة المؤسسية، تحوّلت إلى درسٍ في كيفيّة إطفاء الحرائق بدل فهم أسباب اشتعالها.
وهنا تظهر المفارقة الكبرى:
كيف يمكن لدولةٍ ترفع شعار “محاربة الفساد” أن تسمح لرموزها السياسية بأن تزرع الشك في منظومتها الغذائية دون تحقيقٍ أو مساءلةٍ أو حتى اعتذارٍ واضح؟
وهل يُعقل أن يُترك الأمن الغذائي، بما يحمله من رمزية سيادية، رهينة لعباراتٍ مرتجلةٍ في البرلمان؟
خامسًا: الفضيحة كمرآة لبنية السلطة
حادثة “طحن الورق” لم تفضح المطاحن كما زُعم، بل فضحت الخلل البنيوي في علاقة السلطة بالمسؤولية.
ففي كل الأنظمة التي تُقدّس المؤسسات، تُحاسب الكلمة قبل صاحبها، لأنّ الكلمة — متى نُطقت تحت قبة التشريع — تصبح وثيقةً من وثائق الدولة.
لكن في السياق المغربي، ما يزال الخطاب السياسي يتعامل مع البرلمان بوصفه منبرًا للتصريحات لا مختبرًا للحقائق.
وهنا تتولد المفارقة المؤلمة:
نملك برلمانًا منتخبًا، لكننا نفتقر إلى “ثقافة المسؤولية البرلمانية”.
فهل يمكن أن تُبنى دولة مؤسساتٍ على خطابٍ يستقيل من معناه بعد كل أزمة؟
سادسًا: من التلاعب اللغوي إلى التلاعب الرمزي
حين يتحوّل المجاز إلى آلية تبرير، يفقد الخطاب السياسي قيمته الأخلاقية.
البيان التوضيحي لم يُفنّد الاتهامات، بل أعاد تأويلها بلغةٍ تبريريةٍ تُغلف اللامسؤولية ببلاغةٍ تقنية.
إنّ هذا النمط من “الاعتذار البلاغي” لا يُصلح الضرر، بل يُعمّقه، لأنه يكرّس ثقافة التنصّل بدل ثقافة المساءلة.
فهل أصبحت البلاغة في السياسة بديلاً عن الشفافية؟
وهل يكفي أن نصف الخطأ بالمجاز لنمحو أثره الواقعي على الثقة العامة؟
سابعًا: خاتمة: في الحاجة إلى أخلاقيات جديدة للخطاب السياسي
حادثة “طحن الورق” ليست حادثة لغوية عابرة، بل عرضٌ لمرضٍ أعمق في جسد الممارسة السياسية المغربية:
مرض غياب المسؤولية الخطابية، وضعف الوعي بالعلاقة الجدلية بين الكلمة والسيادة.
فالكلمة السياسية، حين تُقال في مؤسسة تشريعية، تكتسب شرعية قانونية وأخلاقية لا يمكن التلاعب بها أو إعادة تأويلها بسهولة.
وعليه، فإنّ ما نحتاجه ليس فقط ضبط التصريحات، بل بناء ثقافة لغوية جديدة في الفضاء السياسي، قائمة على الوعي بأنّ “المجاز”، حين يصدر عن السلطة، ليس مجازًا بريئًا، بل فعلًا سياديًا قد يهزّ ثقة المجتمع بأكمله.







