
قبل أن تُفتح صفحة من كتاب الزمن، وقبل أن تتكوّن ذرة أو تتشكّل نواة ضوء، كان الله وحده، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح:
«كان الله ولم يكن شيء غيره»
(رواه البخاري).
لم يكن هناك فضاءٌ تُقاس حدوده، ولا زمانٌ تُعرف بدايته، بل كان الوجود الأوّل صافياً إلا من ذاته سبحانه، الذي لا يُحدّ بحدّ ولا يُقاس بقياس.
ومن صميم هذا الأزل البهي، انطلقت إرادة الخلق، إرادةٌ يفيض منها الجلال، ويشعّ منها الكمال، وينبثق منها النظام الذي أقام الله عليه السماوات والأرض.
يخبرنا القرآن أن الله خلق الكون في ستة أيام، لكن هذه الأيام ليست كأيام البشر، إذ لم تكن الشمس ولا القمر قد خُلقت بعد، ولذلك قال تعالى ليعلّمنا معنى الزمن الإلهي:
﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾
(الحج: 47).
فإذا كان اليوم الإلهي بألف سنة من أيامنا، فإن الستة أيام تصبح ستة آلاف سنة في حساب البشر. ستة آلاف سنة من سننِ الخلق البديع الذي جرى بتقدير الحكيم الخلّاق.
بدأ الخلق بالأرض، كما قال تعالى في سورة فصلت، وهو أصدق التفصيل في كتاب الله:
﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾
أي في يومين إلهيين، أي ألفي سنة بميزان البشر، نُحتت فيهما مادة الأرض، وتجمّع جسدها الأولي، واستوت قاعدة الوجود المادي على هيئة تنتظر التشكيل.
ثم انتقلت القدرة الإلهية إلى مرحلة أعظم، هي مرحلة التهيئة، فقال تعالى:
﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾
فأتمّ سبحانه في يومين آخرين – أي ألفي سنة أخرى – تثبيت الجبال الرواسي، وبسط البركة، وتوزيع موارد الأرض، وتقدير الأرزاق، وجريان الماء، وانفتاح الينابيع، وكأن الخالق يعدّ مهد الحياة قبل أن تُنفخ فيه الروح.
بلغت الأرض تمام خلقها في أربعة أيام إلهية = أربعة آلاف سنة، كل لحظة فيها منسوجة بالحكمة، وكل ذرة منها شاهدة على الإتقان الذي لا يعتريه نقص.
ثم ارتقى الخلق إلى مشهدٍ سماوي مهيب، يصوره الوحي بقوله سبحانه:
﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾
مادة كونية أولى، لا شكل لها ولا حدود، لكنها ينبض فيها أمر الله.
فجعل سبحانه من هذا الدخان سبع سماوات، كما قال:
﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾
أي في ألفي سنة بميزان البشر، اكتملت فيها طبقات السماء، وارتفعت أبوابها، وتزيّنت الدنيا منها بالكواكب والمصابيح.
وهكذا اكتملت قصة الخلق:
أربعة أيام للأرض (أربعة آلاف سنة)،
و يومان للسماء (ألفا سنة)،
فكان مجموع الخلق ستة أيام = ستة آلاف سنة بميزان الإنسان، وستة أيام إلهية بميزان رب العالمين.
ولم يحدّثنا الوحي عن الأحد والاثنين والثلاثاء، ولم يركّب قصة الخلق على أسماء الأيام، لأن الزمن الإلهي في جوهره فوق التقويم البشري. وأما الروايات التي ظاهرها تقسيم الخلق على أيام الأسبوع فقد بيّن أئمة الحديث ضعفها واضطرابها، وقال الإمام ابن تيمية عن حديث “خلق الله التربة يوم السبت”: “هو حديث غلط باتفاق أهل المعرفة بالحديث”، إذ يخالف القرآن ونظام الخلق المقطوع بثبوته.
وحين اكتملت السماوات والأرض، واستقرّ النظام الكوني في أبهى صور الإتقان، جاء الإنسان. فقد أخبر النبي ﷺ في الحديث الصحيح:
«خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة… وفيه خُلق آدم»
فكان آدم خاتمة الخلق، وخلاصة القدرة، وغاية التهيئة التي سبقت وجوده بستة أيام إلهية كاملة.
وبهذا تتجلّى الحكاية الإلهية لخلق الوجود، حكايةٌ لا توارى حقيقتها ولا تنطفئ إشارتها:
بدأ الكون من العدم، فخلق الله الأرض في ألفي سنة، وهيّأها في ألفي سنة، ورفع السماوات في ألفي سنة، وجعل من هذا كله نظاماً لا يختل، وبناءً لا يتصدع، وآيةً لا تنقضي.
كل ذرة، وكل قطرة، وكل جبلٍ وسحابٍ ونجم، يهمس بأن الصانع الحكيم قدّره تقديراً، وأبدعه إبداعاً، وصاغه على نسقٍ يعجز عنه العقل والخيال.
وهكذا يبقى الخلق كتاباً مفتوحاً لمن أراد أن يرى، وآيةً شاهدة لمن أراد أن يعقل، ودليلاً على أن الله الذي أتقن صنع كل شيء هو وحده الحق، وكل ما سواه باطل لا كيان له إلا بما أذن به سبحانه.











