منوعات

حين يتحوّل الدماغ إلى خمس قوى خفية تحكم وعيك دون أن تشعر

ليست أفكار الإنسان وحدها من تحرّكه، ولا قراراته الواعية فقط من تصنع مصيره، بل هناك خمس قوى خفية تنشط في دماغه ليلًا ونهارًا، تتناوب عليه بصمت، وتعيد تشكيل وعيه، ومزاجه، وطاقته، وقدرته على الفهم والمواجهة والشفاء. إنها موجات الدماغ الخمس: دلتا، ثيتا، ألفا، باء، وجيم… خمس حالات وجودية يعيشها كل إنسان دون أن يدرك أنه ينتقل بينها عشرات المرات في اليوم الواحد.

في أقصى درجات السكون، حين يغيب الوعي تمامًا، وتُغلق أبواب التفكير، وتستسلم الحواس للنوم العميق، تعمل قوة دلتا. هناك لا تُعالج الأفكار، بل يُعاد بناء الجسد نفسه. الخلايا تُرمَّم، المناعة تُشحذ، القلب يستعيد انتظامه، والعضلات تُصلَح مما أفسدته ساعات التعب. دلتا هي القوة التي تشفي دون ضجيج، وتعيد تشغيل الإنسان من الداخل بينما هو غائب عن العالم. وحين يُحرَم الجسد منها، لا ينهار بسرعة، بل يتآكل ببطء، ويتحوّل الإرهاق إلى أسلوب حياة، ويصير التعب مزمنًا بلا سبب ظاهر.

وبين النوم العميق واليقظة الكاملة، تتسلل قوة ثيتا. هنا لا يكون الإنسان نائمًا تمامًا، ولا مستيقظًا تمامًا. هنا يعيش الشرود، وتشتعل الذكريات، وتنبعث الصور القديمة، وتطفو الأحاسيس الغامضة التي لا تفسير لها. في ثيتا يولد الإبداع، ويكتب الشعر دون قصد، وتنبثق الفكرة فجأة من فراغ داخلي عميق. لكنها في الوقت ذاته منطقة هشّة، يكون فيها العقل أكثر قابلية للإيحاء، وأكثر انفتاحًا للخوف والخيال والوهم. لذلك ارتبطت ثيتا بالأحلام، وبالطفولة، وبأعماق النفس التي لا تمر عبر ميزان المنطق.

وحين يعود الإنسان إلى وعيه الهادئ، إلى لحظة الصفاء دون توتر، إلى التركيز اللطيف دون صراع، تتجلى قوة ألفا. هنا يتوازن العقل، وتهدأ الإشارات العصبية، ويتحول التفكير من ضجيج إلى انسياب. ألفا هي الحالة التي يتعلم فيها الإنسان بسهولة، ويفهم دون عناء، ويشعر براحة داخلية لا يُعرف مصدرها. إنها لحظة السلام المؤقت بين العقل والواقع، حيث لا حرب ولا استسلام، بل هدنة ذهنية قصيرة.

لكن ما إن يعود الإنسان إلى ساحة الحياة، إلى العمل، إلى التحليل، إلى القلق، إلى اتخاذ القرار، حتى تشتعل قوة باء. هنا يصبح العقل آلة للتركيز، والفهم، والحساب، والمواجهة. باء هي قوة الإنتاج، وقوة الجدال، وقوة السعي. لكنها حين تطغى وتستولي على الإنسان، تتحول إلى توتر دائم، وأرق، وضغط عصبي، واستنزاف داخلي لا يرحم. كثيرون يعيشون في باء ليلًا ونهارًا، حتى ينسوا كيف ينتقلون إلى غيرها.

وفي القمة، في أقصى سرعات الدماغ، حيث يتضاعف الإدراك، وتتسارع المعالجة، وتتلاحق الأفكار كشرارات متوهجة، تظهر قوة جيم. هنا يبلغ الدماغ ذروة نشاطه، حيث العبقرية، وحدّة الحدس، والترابط المعرفي المدهش. في هذه الحالة يُبدع العلماء، ويخترع المفكرون، ويحلّ الإنسان أعقد المشكلات في لحظات خاطفة. لكنها حالة نادرة، لا تُمسك طويلًا، لأن الجسد لا يحتمل البقاء في أقصى سرعاته دون ثمن.

الإنسان لا يعيش في قوة واحدة فقط، بل ينتقل بينها جميعًا كل يوم، وربما دون أن يشعر. قوته الحقيقية لا تكمن في سيطرة واحدة منها، بل في التوازن بينها. من يغرق في دلتا يهرب من الواقع، ومن يسكن ثيتا يضيع في الخيال، ومن يحبس نفسه في ألفا يجمُد، ومن يعيش أسير باء يحترق، ومن يطارد جيم دون وعي ينهك نفسه حتى الانهيار.

وفي زمن الضجيج الرقمي، والشاشات المتوهجة، والقلق اليومي، صار الإنسان أفقر ما يكون في دلتا، وأندر ما يكون في ألفا، وأكثر ما يكون في باء، ويظن أن الحل في مطاردة جيم… بينما الحقيقة أن الشفاء يبدأ حين يعود للتوازن.

الدماغ ليس آلة تعمل بسرعة واحدة، بل كائن حيّ يتنفس عبر خمس حالات، فإذا اختلّ إحداها، اختلّ الإنسان كله. وقد لا يكون الخلل في حياتك فكرة، ولا وظيفة، ولا علاقة، بل موجة ضاعت منك في الطريق.

هذه ليست طاقة غيبية كما يُروَّج، ولا أسرارًا سحرية، بل خريطة داخلية دقيقة، من عرفها فهم نفسه، ومن تجاهلها عاش في صراع لا يدري سببه.

جواد مالك

مدير عام و رئيس تحرير جريدة أهم الأخبار الدولية. أمين عام الإتحاد الدولي للشعراء والأدباء العرب (فرع المملكة المغربية). أمين سر منظمة أواصر السلام العالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا