
أثار ما تم تداوله مؤخرًا بخصوص واقعة داخل محكمة الاستئناف بالرباط نقاشًا عموميًا تعددت فيه القراءات وتباينت التأويلات، بين من انطلق من منطق التنبيه والحرص على صورة المرفق القضائي، ومن سعى لاحقًا إلى تقديم معطيات توضيحية أعادت الواقعة إلى سياقها الحقيقي. وبين هذا وذاك، يبرز اليوم واجب التهدئة ورفع اللبس، بما يخدم الصالح العام ويصون هيبة العدالة، دون المساس بكرامة الأشخاص أو التشكيك في نوايا الفاعلين.
وجدير بالتذكير أن هذه الواقعة كانت قد أُثيرت خلال الأسبوع الماضي في جريدة كاب24، في مقال حمل عنوان «محكمة الاستئناف بالرباط: عندما يتحول المكتب إلى مخبزة والموظفة إلى بائعة الخبز»، حيث قُدمت قراءة أولية للحدث انطلقت من منطلق التنبيه إلى ما قد يُفهم على أنه مساس برمزية المرفق القضائي. غير أن تطور النقاش وظهور معطيات إضافية لاحقًا، أبان أن الأمر كان في جوهره أقرب إلى التباس في الفهم والتأويل، وليس سلوكًا مؤسساتيًا ممنهجًا أو نشاطًا تجاريًا داخل المحكمة.
إن محكمة الاستئناف بالرباط تُعد من بين المؤسسات القضائية التي تضطلع بأدوار مركزية في تكريس سيادة القانون، وهي مؤسسة تقوم على مجهودات متكاملة يبذلها رئيسها، ووكيلها العام، وقضاة الحكم والنيابة العامة، ورئيس كتابة الضبط، وموظفوها، وكافة الأطر والعاملين بها، كلٌّ من موقعه، لضمان السير العادي للعدالة في إطار من الجدية والانضباط والمسؤولية. كما لا يمكن إغفال الدور المهم الذي تقوم به أطر النظافة والحراسة وباقي العاملين، في الحفاظ على نظافة المرافق القضائية وتنظيمها بما يليق برمزيتها ومكانتها.
وفي خضم هذا النقاش، تبيّن أن ما وقع لم يكن مرتبطًا بأي نشاط تجاري أو ممارسة خارجة عن إطار العمل داخل المحكمة، بل كان نتيجة مبادرة اجتماعية عفوية لفائدة زميل عائد من أداء العمرة، في تقليد إنساني متداول بين الزملاء، يعكس قيم التضامن والتآزر داخل بيئة العمل، ولا يندرج في خانة السلوكات المخلة أو المسيئة للمرفق القضائي، وإن كان قد أُسيء فهمه خارج سياقه الطبيعي.
غير أن إخراج الواقعة من سياقها، وتداولها بتأويلات متباينة، خلّف آثارًا نفسية مؤلمة، حيث وُضعت الموظفة المعنية تحت ضغط معنوي كبير، دفعها إلى التفكير في تقديم استقالتها، لولا التدخل المسؤول لرئيس كتابة الضبط، الذي رفض هذه الاستقالة وتعامل مع الوضع بحكمة وبعد إنساني ومؤسساتي، حرصًا على استقرار الأطر وحماية كرامتهم، وعلى معالجة الإشكال في إطاره الصحيح بعيدًا عن أي تصعيد غير مبرر.
ولا خلاف في أن الصحافة، حين تمارس دورها في التنبيه، إنما تقوم بوظيفة نبيلة تهدف إلى حماية المصلحة العامة وصورة المؤسسات، خصوصًا تلك المرتبطة بالعدالة. وفي المقابل، يبقى التوضيح المؤسساتي حقًا وواجبًا، حين تظهر معطيات إضافية أو يتبين أن التأويل تجاوز حدود الوقائع. فالعلاقة بين الصحافة والمؤسسات يجب أن تقوم على التكامل لا التصادم، وعلى البحث عن الحقيقة لا عن الإثارة.
إن المرفق القضائي، بحكم رمزيته، يفرض مستوى عاليًا من التنظيم والوضوح في الممارسات اليومية، ليس تضييقًا على البعد الإنساني داخل فضاء العمل، بل درءًا لأي التباس قد يُساء فهمه أو يُستغل خارج سياقه. وهو ما يجعل من الضروري تعزيز التواصل الداخلي، وتنظيم فضاءات الاستراحة، وتوفير شروط عمل لائقة، بما يحفظ كرامة الموظفين ويصون في الوقت نفسه هيبة المؤسسة.
وفي المحصلة، تبقى محكمة الاستئناف بالرباط مؤسسة قائمة برجالها ونسائها، وبما راكمته من ثقة ومصداقية عبر سنوات من العمل الجاد. ويبقى النقاش الهادئ والمتزن فرصة لتقوية هذه الثقة لا لتقويضها، وللتأكيد على أن هيبة القضاء لا تُصان بالصمت ولا بالتصعيد، بل بالحكمة، والوضوح، واحترام الأدوار، وخدمة الصالح العام فوق كل اعتبار.











