
في خضمّ التحركات الدبلوماسية المتسارعة التي تشهدها المنطقة، عادت القضية الفلسطينية لتتصدر واجهة الأحداث الدولية، وهذه المرة عبر ما سُمي بـ”خطة ترامب بشأن غزة”، التي تتحدث عن محادثات مرتقبة في مدينة العريش المصرية، ومؤتمر موسّع للفصائل الفلسطينية يُنتظر أن يضع ملامح مرحلة ما بعد الحرب، في واحدة من أكثر المحطات حساسية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
تسريبات إعلامية إسرائيلية وأخرى من أوساط قريبة من حركة حماس تحدثت عن قبول مبدئي من الحركة لخطة تتضمن الإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين مقابل وقف شامل لإطلاق النار، وبدء مرحلة جديدة يُعاد فيها ترتيب المشهد السياسي والإداري داخل القطاع. وتأتي هذه الخطوة في ظل مبادرة أمريكية يقودها الرئيس دونالد ترامب، يسعى من خلالها إلى فرض رؤية سياسية تُمكّنه من تسجيل “إنجاز سلام” جديد يعيد واشنطن إلى قلب ملف الشرق الأوسط، بعد سنوات من الجمود.
الخطة التي تتداولها وسائل الإعلام تتضمن إنشاء لجنة أو هيئة انتقالية من كفاءات فلسطينية مستقلة تتولى إدارة غزة مؤقتًا، في انتظار توحيد السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية والقطاع. وهي صيغة قد تبدو واقعية من الناحية السياسية، لكنها تواجه أسئلة معقدة حول مدى قبول الفصائل الفلسطينية بها، وحول حدود الدور الإسرائيلي والأمريكي والمصري في رسم تفاصيلها.
اختيار مدينة العريش المصرية كمقرّ للمحادثات ليس صدفة؛ فمصر تظلّ الدولة الأكثر تأثيرًا في الملف الفلسطيني، بحكم حدودها المشتركة مع القطاع وعلاقاتها المتشابكة مع كل الأطراف. ومن المتوقع أن يشارك في الاجتماعات مسؤولون من الجانب الإسرائيلي والأمريكي، من بينهم وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر والمبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، إلى جانب جاريد كوشنر الذي يُعدّ من أبرز مهندسي “صفقة القرن” السابقة.
توقيت الإعلان عن الخطة يأتي في لحظة إقليمية دقيقة، حيث تتعالى الأصوات الدولية المطالبة بإنهاء الحرب على غزة ووقف نزيف الدم، فيما تواجه إسرائيل ضغوطًا متزايدة بسبب الكلفة الإنسانية الباهظة للعمليات العسكرية. كما يواجه الفلسطينيون تحديًا مصيريًا في توحيد صفوفهم، وسط انقسامات سياسية وواقعية جعلت المشهد الداخلي أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
في المقابل، يطرح كثير من المراقبين تساؤلات حول مدى واقعية خطة ترامب، خصوصًا في ظلّ تاريخ طويل من المبادرات الأمريكية التي اصطدمت بحائط الرفض الفلسطيني أو بتعنت إسرائيلي يرفض أي مساس بهيمنة الاحتلال. فهل ستكون “محادثات العريش” بداية حقيقية لتسوية عادلة؟ أم مجرد جولة جديدة من المساومات التي ستُضاف إلى أرشيف الفشل السياسي في المنطقة؟
ما هو مؤكد أن غزة، التي دفعت الثمن الأغلى من دماء أبنائها ودمار بيوتها، تقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم، وأن العالم العربي والعواصم الكبرى تتابع المشهد بترقب شديد. فإما أن تكون هذه المبادرة مدخلًا لتوحيد الصف الفلسطيني وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، وإما أن تغدو فصلًا جديدًا من فصول التوظيف السياسي للقضية الفلسطينية في لعبة المصالح الدولية.
ويبقى الأمل أن تكون “العريش” هذه المرة بوابة عبور نحو سلامٍ حقيقي يُعيد للإنسان الفلسطيني كرامته، ولغزة حقها في الحياة، بعيدًا عن الصفقات المؤقتة والحسابات الضيقة التي أرهقت المنطقة لعقود.