في زمنٍ تختلط فيه الجغرافيا بالخيال، والسياسة بالعبث، تطل علينا “جبهة البوليساريو” كأغرب تجربة في تاريخ الدول الحديثة. كيانٌ يعيش في أرض الجزائر، يرفع شعارات “التحرير” و“الاستقلال”، ويطالب بدولةٍ تقع تحت السيادة المغربية! إننا أمام ظاهرة سياسية خارقة للطبيعة: دولة بلا أرض، بلا عاصمة، بلا جوازات سفر، وبلا حتى منفى يمكن أن يُقال عنها “حكومة منفى”!
في الرابوني، تلك البقعة المنسية في صحراء تندوف، نصبت الجبهة خيامها، وأعلنتها “عاصمة”، بينما لا تملك فيها حق إقامة عمود كهرباء دون إذنٍ من الولاية الجزائرية. هناك تُعقد الاجتماعات الوزارية داخل خيمةٍ واحدة، والرئيس ينام على بعد خطوات من المطبخ الذي تُعد فيه وجبات المعونات الإنسانية. الوزراء يتحركون بتصاريح جزائرية، والمواطنون يعيشون على بطاقات غذاء لا على جوازات سفر. ومع ذلك، تصدر “البيانات الرسمية” كما لو أن الدولة تمتلك حدوداً ومطاراتٍ ومصانع!
دولةٌ داخل دولة، تبحث عن عاصمة فوق أرض دولةٍ ثالثة، وتعيش على تمويلٍ من دولةٍ رابعة. ثم يخرج المتحدث الرسمي ليصرخ في المنابر الدولية: “نحن نريد الاستقلال”! استقلال ممّن؟ من مضيفكم؟ من مضيف مضيفكم؟ أم من واقعٍ لا يريد أن يعترف بكم أصلاً؟
القصة تُذكّرنا بتلك المنطقة المسماة “بير طويل” بين السودان ومصر، التي لا يعترف بها أحد، فيأتي كل فترة شخص من المجهول ليزرع علماً ويعلنها “مملكته”! الفارق الوحيد أن سكان “بير طويل” لا يدّعون أنهم أصحاب دولةٍ على أرض الآخرين، ولا يصدرون بياناتٍ من خيمةٍ على الرمال.
وربما كان الأجدر بجبهة البوليساريو أن تقرأ رواية “دون كيشوت دي لامانشا”، ذاك الفارس المسكين الذي ظنّ طواحين الهواء جيوشاً معادية فقاتلها حتى جنّ. فالوهم حين يتضخم يُفقد الإنسان توازنه مع الواقع، فكيف إذا تحوّل الوهم إلى مشروع سياسي تتبنّاه شرذمةٌ من الممولين والحالمين في رمال تندوف؟
في الجانب الآخر، المغرب يمارس سيادته الكاملة على صحرائه، يبني المدن، يشق الطرق، يزرع التنمية، ويستقطب الاستثمارات. الصحراء المغربية اليوم واقعٌ لا يُجادل فيه إلا من يعيش خارج الزمن. بينما الجبهة لا تزال عالقة في خطاب سبعينيات القرن الماضي، تبيع للناس قصةً قديمةً انتهت فصولها منذ أن أدرك العالم أن الحكم الذاتي المغربي هو الحل الوحيد الواقعي.
إنها جمهورية “الخيال السياسي”، نموذج للدولة الورقية التي تعيش على الأوهام وتتنفس المساعدات، دولة بلا أرض، بلا عاصمة، بلا جوازات سفر، وبلا حتى منفى!
وربما، لو كان دون كيشوت حيًّا اليوم، لقال وهو يراقبها من بعيد:
“ما أشبههم بي حين ظننتُ الطواحين فرسانًا، لكنهم تجاوزوا الجنون فصاروا يصارعون السراب نفسه!”










