منوعات

رمزية الأرقام في الهندوسية والبوذية: لغة الكون ومعاني الروح

علم الارقام : الجزء الرابع

يُعدّ علم الأرقام أحد أعمق المفاهيم الروحية التي رافقت الإنسان منذ فجر الفكر الفلسفي، إذ تحوّلت الأعداد من مجرد أدوات للعدّ إلى رموز تختزن دلالات كونية وروحية عميقة. وفي الديانتين الهندوسية والبوذية، اكتسبت الأرقام بعدًا يتجاوز الحساب والمنطق، لتصبح لغة خفية تترجم علاقة الإنسان بالكون والإله والزمن والوجود.

في الفكر الهندوسي، نشأ ما يُعرف بـ”الأنكا شاسترا” أو علم الأعداد الفيدي، وهو نظام قديم يرى في كل رقم طاقة إلهية تحكم حركة الكون وسلوك الإنسان. فالأعداد من واحد إلى تسعة تمثل تسع قوى كوكبية مرتبطة بآلهة محددة، ولكل رقم ذبذبة روحية تؤثر في المصير والحياة. الرقم “1” يرمز إلى الخلق والبدايات والقوة الإبداعية الإلهية، في حين يشير الرقم “2” إلى الازدواج والتكامل بين الذكر والأنثى، أما “3” فهو رقم الاتزان المرتبط بثالوث الوجود: الخلق والحفظ والفناء. ويُعتبر الرقم “4” رقم النظام والاتجاهات الأربع، بينما يرمز “5” إلى الإنسان بوصفه كائناً وسطياً يجمع بين المادة والروح. أما “6” فيرتبط بالمحبة والعاطفة، و”7″ بالحكمة والمعرفة الباطنية، و”8″ بالقانون الكوني والكارما، و”9″ بالاكتمال والتحرر.

تتجلى الرمزية العددية في الهندوسية كذلك في تقديس أرقام بعينها مثل 18 و108 و1008، إذ يُنظر إليها كرموز للكمال والتمام. فالرقم 108 يُعتبر الأكثر قداسة، ويُستخدم في سبحات التلاوة “مالا” التي تحتوي على 108 حبّة تمثل الدورات الكاملة للطاقة الروحية أثناء ترديد المانترا. أما الرقم 1008 فيُرمز به إلى صفات الإله الأعلى أو أسماء الإله في النصوص القديمة، بينما يشير الرقم 18 إلى الانسجام بين القوى الكونية والإنسانية كما يتجلى في فصول “المهابهارتا” الثمانية عشر. وحتى الصفر، الذي يُعرف في السنسكريتية باسم “شونيا”، لا يُعدّ عدماً بالمعنى العددي، بل هو فراغ الخلق، المجال الذي منه ينبثق كل وجود. وهكذا يصبح علم الأرقام في الهندوسية لغة خفية توائم بين الكون والروح وتكشف أن النظام العددي ليس مصادفة رياضية، بل بنية مقدسة تنبض بالحياة.

أما في البوذية، فالأرقام لم تكن وسيلة للتنجيم بقدر ما كانت مفاتيح للتأمل والفهم الروحي. فقد استخدم بوذا نفسه الأعداد لتقريب التعاليم إلى الأذهان وتنظيمها في قوائم تحفظ وتُتلى، مثل الحقائق الأربع النبيلة، والطرق الثمانية المقدسة، والعناصر الخمسة، والمراحل السبعة للتنوير. فالأرقام هنا أدوات تربوية وروحية تساعد على إدراك التوازن والوسطية. الرقم “1” يُجسّد الوحدة المطلقة، و”2″ يرمز للثنائية التي ينشأ منها الصراع والوهم، و”3″ يمثل تكامل الوعي مع الجسد والفكر، و”4″ يعبر عن الاكتمال والكمال الذي يتحقق بالاستنارة. أما الرقم “108” فله نفس الحضور القدسي كما في الهندوسية، حيث يرمز إلى عدد الشهوات أو الشوائب التي ينبغي على الإنسان التخلص منها للوصول إلى الصفاء.

وفي التقاليد البوذية التبتية، تطوّر ما يُعرف بعلم الأرقام الكارمي، وهو مزيج من الفلك والروحانية والكارما، يربط بين تاريخ الميلاد وطبيعة الطريق الروحي للفرد. الأرقام الفردية تُعدّ في الثقافة التبتية أكثر حظًّا، في حين يُعتبر الرقم “6” رقم الانسجام والتوازن لأنه يمثل مضاعفًا للثلاثية المقدسة. ومع ذلك، فإن البوذية الكلاسيكية تحذّر من الانغماس في التنجيم أو التنبؤ بالأرقام، إذ يُنظر إلى مثل هذه الممارسات على أنها انشغال دنيوي يصرف الإنسان عن جوهر التحرر. ومع ذلك ظلّت الرموز العددية جزءًا من الإرث الثقافي البوذي، تُستخدم في بناء المعابد، وعدد الدرجات، والدوائر الروحية التي ترمز لمسار التنوير.

يتلاقى الفكران الهندوسي والبوذي في نظرة مشتركة ترى أن الأرقام ليست رموزًا جامدة، بل أنفاسًا للكون تعبّر عن النظام الخفي الذي يحكم الوجود. الرقم في هذه الفلسفات لا يُقرأ بالعين وإنما بالبصيرة، فهو يحمل معنى روحياً يتجاوز المظاهر، ويربط الإنسان بالمطلق. وهكذا يغدو علم الأرقام، في جوهره، محاولة لفهم لغة الإله في هندسة الكون، ومحاورة النظام الكوني بالأعداد كما تُحاور الروح ربّها بالصلاة، في انسجام بين الفكر والقدر، والعقل والنجوم، والإنسان واللامتناهي.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا