
تتسم الحرب في أوكرانيا بطابع يتجاوز في تعقيده الصراعات الإقليمية التقليدية. فهي ليست مجرد مواجهة بين دولتين، بل ساحة اختبار لإعادة تشكيل ميزان القوى الدولي. وفي هذا السياق، تعود شخصية دونالد ترامب إلى الواجهة، لا باعتباره مجرد فاعل سياسي أمريكي، بل كعنصر فاعل في إعادة تشكيل التصورات الغربية حول مستقبل الحرب والسلام في أوروبا الشرقية.
الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي يستعد للعودة إلى الساحة السياسية في انتخابات 2024، أبدى في مناسبات متعددة رغبته في التوسط لإنهاء النزاع في أوكرانيا. ويبدو أن مقاربته، التي تحمل طابع “الصفقة الكبرى”، ترتكز على فلسفة سياسية يعتبر فيها أن الحلول لا تأتي من المبادئ الأخلاقية أو التحالفات التاريخية، بل من التوازنات الواقعية والصفقات المتبادلة.
طرحه، كما تم تسريبه من مصادر مقربة، يقوم على فكرة تبادل الأراضي أو الاعتراف بأمر واقع جديد في الشرق الأوكراني مقابل وقف شامل لإطلاق النار. هذه الرؤية التي تثير جدلاً واسعًا، تأتي في وقت يعيش فيه الغرب حالة إنهاك استراتيجي، بينما تحافظ روسيا على تماسك داخلي وتحقيق مكاسب تدريجية على الأرض.
يُعرف ترامب بخطابه المباشر وأسلوبه الذي يتجاوز القنوات الدبلوماسية التقليدية. ولكن المبادرة التي يروّج لها تحمل إشكاليات عميقة: فهي لا تأخذ بعين الاعتبار الشروط السيادية لأوكرانيا، ولا تحفظ مبادئ القانون الدولي القائم على احترام وحدة الأراضي. إضافة إلى ذلك، فإن طرح مثل هذا النوع من التسويات في ظل استمرار العمليات العسكرية، يعزز من منطق فرض الوقائع بالقوة، وهو ما قد يشكل سابقة خطيرة في العلاقات الدولية.
كما أن الرهان على صفقات فردية يتجاوز دور المؤسسات الدولية، ويُضعف من فعالية النظام المتعدد الأطراف، ما يهدد بإعادة إنتاج منطق الهيمنة السياسية والاقتصادية من خارج الأطر القانونية الدولية.
في المقابل، تنتهج روسيا استراتيجية تقوم على الاستنزاف المتدرج للغرب. فالرئيس فلاديمير بوتين يدرك جيدًا حجم الانقسام داخل الجبهة الغربية، ويُراهن على تآكل الدعم السياسي والشعبي لكييف. وقد استطاع تحويل الحرب إلى عنصر تماسك داخلي، وربطها برؤية أوسع ترتبط بتوازنات عالمية جديدة تتجه نحو التعددية القطبية، بقيادة روسيا والصين وقوى صاعدة أخرى.
الرهان الروسي يتجاوز أوكرانيا كجغرافيا، ليشمل خلخلة بنية النظام العالمي ما بعد الحرب الباردة. ولذلك، فإن تجاوبه مع أية مبادرات للسلام سيكون مشروطًا بإعادة تعريف حدود النفوذ الروسي، واعتراف الأطراف الغربية بمكانته كفاعل دولي لا يمكن تجاوزه.
رغم خطاب الوحدة، يعاني التحالف الغربي من تصدعات بنيوية. أوروبا، التي تتحمل العبء الأكبر من تداعيات الحرب اقتصاديًا وأمنيًا، بدأت تتململ من استمرار النزاع. الضغوط التضخمية، وأزمة الطاقة، وتزايد الاعتماد على الصناعات العسكرية، كلها عوامل أضعفت الموقف الأوروبي ودفعته لإعادة التفكير في استراتيجياته.
في هذا السياق، تعكس تلميحات ترامب ورغبته في خفض الالتزامات الأمريكية تجاه أوروبا توجها نحو الانعزال البراغماتي. فالرئيس السابق، وربما القادم، لا يُخفي تفضيله للصفقات الثنائية على التحالفات متعددة الأطراف، ولا يُبدي استعدادًا للانخراط في التزامات أمنية بعيدة المدى.
أي مبادرة سلام مستدامة يجب أن تضمن أمن أوكرانيا وسيادتها، دون أن تثير في الوقت نفسه استفزازات إضافية لروسيا. هنا يكمن التعقيد الحقيقي. فالدعوات إلى توفير “ضمانات أمنية” لكييف، سواء عبر انضمامها المستقبلي إلى حلف الناتو أو من خلال وجود عسكري غربي على أراضيها، تُقابل برفض روسي قاطع. موسكو ترى في ذلك تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وتعتبره تجاوزًا للخطوط الحمراء التي لطالما حذرت منها.
في المقابل، فإن التخلي الكامل عن فكرة الضمانات الأمنية يضع أوكرانيا في موقع هش، ويجعل أي اتفاق سلام مؤقتًا وقابلًا للانهيار. وهنا تظهر الحاجة إلى ابتكار نموذج أمني جديد، لا يكون قائمًا فقط على الردع العسكري، بل على ترتيبات أمنية سياسية واقتصادية طويلة الأمد، تُشرك فيها أطراف دولية متعددة، وتضع حدًا لاستخدام أدوات الضغط الجيوسياسي.
ترامب واستغلال الأزمة انتخابيًا
وسط هذا التعقيد، لا يمكن إغفال البعد الانتخابي الداخلي الأمريكي. دونالد ترامب، المعروف بقدرته على استثمار الأزمات الخارجية في حملاته الانتخابية، يُقدّم نفسه كصانع سلام محتمل قادر على إنهاء الحرب “خلال 24 ساعة”، كما يزعم. إلا أن هذا الخطاب، الذي يفتقر إلى خطة مفصلة، لا يُقنع حلفاء واشنطن التقليديين، بل يزيد من القلق بشأن توجهات السياسة الخارجية الأمريكية في حال عودته إلى الحكم.
فإدارة ترامب السابقة أظهرت ترددًا في الالتزامات الدولية، وميولًا نحو الانسحاب من التحالفات، وقد ينعكس هذا على مدى استعداد الولايات المتحدة للمساهمة في إعادة الإعمار أو ضمان الأمن في أوروبا الشرقية.
أوكرانيا تقف اليوم على مفترق طرق مصيري. فهي تخوض معركة دفاع عن سيادتها، لكنها تواجه في الوقت نفسه ضغوطًا هائلة لقبول تسويات قد تُفقدها أجزاءً من أراضيها. بين استمرار الحرب بمخاطرها، والانخراط في تسويات غير عادلة، تبدو الخيارات كلها محفوفة بالخطر. والرهان الحقيقي اليوم، ليس فقط على الميدان العسكري، بل على قدرة كييف في الحفاظ على دعم دولي موحد، وهو ما يبدو مهددًا في حال تغيرت القيادة في واشنطن.
الحرب في أوكرانيا باتت تُختزل في سؤال أكبر: من يحكم النظام العالمي؟
هل سنشهد استمرارًا لهيمنة الغرب بقيادة الولايات المتحدة، أم بروز نظام عالمي متعدد الأقطاب، تقوده تحالفات جديدة تضم روسيا، الصين، والهند؟ ترامب، كظاهرة سياسية، يعكس هذا التحول في ميزان القوى، سواء عبر خطابه أو عبر تموقعه داخل توازنات الغرب الداخلية.
وفي ظل هذا المشهد المتغير، تبقى أوكرانيا ساحة اختبار، لا فقط للسياسة الخارجية الأمريكية، بل لمستقبل أوروبا، ولاتجاهات العلاقات الدولية في العقود القادمة.