
لا يزال زواج القاصرات إحدى أكثر الظواهر الاجتماعية إثارة للجدل في المجتمعات العربية، رغم التحولات العميقة التي عاشتها الأسرة خلال العقود الأخيرة. وبينما كان هذا الزواج في الماضي يُنظر إليه كـ”ضرورة اجتماعية” تحكمها الأعراف والظروف الاقتصادية، أصبح اليوم علامة على اختلالات بنيوية تمس التعليم، والوعي، وحقوق الفتيات.
بين الماضي… حين كان الزواج حماية
في العقود السابقة، كان زواج القاصرات يُعتبر شكلًا من أشكال “الستر” أو “الأمان” للأسرة، خاصة في المناطق القروية. كانت الفتاة تُزوَّج مبكرًا تحت ضغط الخوف من المستقبل، أو طمعًا في تحسين الوضع المعيشي، أو التزامًا بتقاليد متجذّرة.
لم يكن التعليم متاحًا للجميع، ولم تكن الفتاة تملك صوتًا داخل الأسرة، فكان القرار يُتخذ عنها، ويُنظر إليه على أنه أفضل الخيارات المتاحة.
… والحاضر الذي يكشف الثمن الباهظ
اليوم، تظهر آثار هذا الزواج على شكل معاناة نفسية وجسدية للفتيات، إضافة إلى انعكاسات اجتماعية خطيرة. الفتاة القاصر التي تُنتزع من طفولتها تواجه غالبًا:
انقطاعًا مبكرًا عن الدراسة
مخاطر صحية أثناء الحمل والولادة
عزلة اجتماعية ونفسية
ضياع الطفولة وانهيار الثقة بالنفس
تفكك أسري نتيجة عدم النضج العاطفي لكلا الزوجين
ورغم تطور التشريعات في عدد من الدول، ما زالت بعض الأسر تبحث عن مبررات تبقي هذه الظاهرة حية، سواء بدافع الخوف من “العار”، أو بسبب الفقر، أو تحت غطاء الاستثناءات القانونية.
بين القانون والواقع… الفجوة مستمرة
عملت دولٌ عديدة على رفع سن الزواج وتشديد الرقابة، إلا أن الثغرات القانونية لا تزال تسمح بتزويج القاصرات تحت مسمى “الاستثناء”. وفي كثير من الحالات، تُستغل هذه الثغرات لتبرير زواج فتيات لا يتجاوزن الرابعة عشرة، في غياب رقابة اجتماعية كافية.
التعليم… خط الدفاع الأول
يثبت الواقع أن الفتاة التي تكمل دراستها تقل احتمال تعرضها للزواج المبكر بنسبة كبيرة. فكلما ارتفع الوعي والمعرفة، تراجعت سلطة التقاليد. ولهذا، بات الاستثمار في تعليم الفتيات وتمكين الأسر هو السلاح الأهم لمحاربة هذه الظاهرة.
مجتمع يتحرّر خطوة بخطوة
ورغم التحديات، تشهد السنوات الأخيرة ارتفاعًا في الوعي العام، وحملات قوية للتنديد بزواج القاصرات، بدأت تُحدث تحولًا في نظرة المجتمع. فالفتيات اليوم أقدر على التعبير عن حقوقهن، والأسر باتت أكثر إدراكًا للمخاطر.
زواج القاصرات ليس مجرد حدث اجتماعي، بل هو قصة حياة تتبدد قبل أن تبدأ. وبين الماضي الذي كان يراه قدرًا، والحاضر الذي يكشف أثمانه، يظل المستقبل مرهونًا بمدى قدرة المجتمع على تغليب الوعي على العادة، وحماية طفولة تستحق أن تعيش بكرامة لا أن تُختصر في عقد زواج مبكر.







