
ليس كل من أمسك بالكاميرا صانعَ سينما، فبعض العدسات تلتقط الصور، وأخرى تلتقط الأرواح والمعاني. وسعيد الناصري من ذلك الطراز النادر الذي يجعل من السينما مرآةً ناطقة بوجدان الوطن، وصرخةً فنية في وجه الصمت. فمنذ بداياته، اختار أن يكون فناناً يُخاطب الناس بلغتهم، لا بلغة النخبة، وأن يُقدّم لهم واقعهم في قالبٍ ساخرٍ يضحكهم من الألم، ويوقظ فيهم حسَّ الوعي والتفكير.
يأتي فيلمه الجديد “الشلاهبية” ليُكرّس هذا النهج الإنساني والفني الأصيل. ففي هذا العمل الذي كتب نصَّه وأخرجه بنفسه، يغوص الناصري في عمق الواقع المغربي، كاشفاً وجوهاً من الفساد الإداري والسياسي، وسلوكيات تُفرّغ الحياة العامة من معناها، حيث يتحوّل بعض المسؤولين إلى تجّار للضمائر، مستغلين فقر الناس وسذاجتهم. غير أن الناصري لا يقدّم هذا العالم القاتم بروحٍ ثقيلة، بل يطوّعه بسخرية لاذعة ونَفَسٍ كوميديّ يجعل من الضحك مرآةً تعكس الوجع، ومن المشهد البسيط درساً في المواطنة.
ولعل ما يميّز هذا الفيلم ليس فقط قوّة موضوعه، بل جرأة اختياراته الإنسانية، إذ قرّر سعيد الناصري أن يدمج ضمن طاقم الفيلم مجموعة من الشباب المسرحيين الذين عاشوا سابقاً تجربة الاعتقال، ليمنحهم فرصة جديدة للحياة والإبداع، في خطوةٍ غير مسبوقة في السينما المغربية. إنها مبادرة تنبض بالرحمة والإيمان بقدرة الفن على الإصلاح والاحتواء، أكثر من أيّ خطابٍ سياسي أو شعارٍ اجتماعي. لقد أراد الناصري أن يُثبت أن الفنّ يمكن أن يكون جسراً بين السقوط والنهضة، بين الخطأ والغفران.
ويضمّ الفيلم نخبة من الأسماء البارزة في الساحة الفنية المغربية، من بينهم إلهام واعزيز، هشام الوالي، محسن ناشط، فاطمة وشاي، حسن عين الحياة، إضافة إلى عددٍ من الوجوه المسرحية الجديدة التي أضفت على العمل صدقاً إنسانياً لافتاً. كما يشارك في الفيلم المسرحي إسماعيل أبو القاسم، الذي يُعتبر من الأصوات الإبداعية اللامعة في المشهد الثقافي، إذ أضفى بحضوره عمقاً أدائياً وفكرياً راقياً، ليؤكد أن الكلمة والتمثيل حين يجتمعان في خدمة الفكرة، تُولد لحظة فنية صادقة لا تُنسى.
في “الشلاهبية”، يواصل سعيد الناصري تقديم السينما التي تشبه الناس، تلك التي تخرج من الحيّ الشعبي لتعود إليه مكللة بالمعنى والابتسامة. هو لا يصنع أفلاماً من ورق، بل من لحم الواقع وعَرق الكادحين، ومن ضحكاتٍ تختلط فيها المرارة بالأمل. وكأنّه يقول للمغاربة جميعاً: ما دامت فينا القدرة على الضحك، ففينا القدرة على النهوض.
لقد أثبت الناصري مجدداً أن السينما ليست ترفاً ولا وسيلة شهرة، بل رسالة وطنية تحمل في طيّاتها حبّ الأرض والناس، وأن الكوميديا الهادفة يمكن أن تكون أبلغ من ألف خطاب سياسي. ومع “الشلاهبية”، يوقّع سعيد الناصري فصلاً جديداً من مسيرته التي تمزج بين الفنّ والإنسانية، ليبقى في وجدان جمهوره رمزاً للفنان الذي آمن بأن العدسة قد تُصلح ما أفسدته الكلمات.
وسيكون عرض الفيلم في القاعات المغربية ابتداءً من 12 نونبر 2025، في موعدٍ ينتظره عشّاق السينما بشغفٍ كبير، لأنهم لا يذهبون هذه المرّة لمشاهدة فيلمٍ فقط، بل لملاقاة مرآةٍ تعكس ملامحهم، وتروي حكايتهم، وتُعيد لهم الإيمان بأن الفنّ ما زال قادراً على أن يُغيّر العالم بابتسامة صادقة.
من المرتقب أن يُحدث “الشلاهبية” حراكاً فنياً وثقافياً داخل الساحة السينمائية المغربية، لما يحمله من جرأة فكرية وصدقٍ اجتماعي نادر. فالفيلم مرشّح لأن يُعيد النقاش حول دور السينما في مساءلة الواقع لا تجميله، وفي جعل الفن جزءاً من الوعي الجمعي، لا زينةً على هامشه. ومن المؤكد أن خطوة سعيد الناصري في إشراك الشباب المسرحيين وإعادة دمجهم فنياً ستفتح باباً جديداً أمام موجةٍ من السينما المغربية الأصيلة، التي لا تخاف من قول الحقيقة، ولا تتردّد في أن تكون صوتاً للمواطن حين يصمت الجميع.
وهكذا يمضي سعيد الناصري في طريقه، كحكّاءٍ يعرف أن الوطن لا يُروى إلا بصدقٍ، وأن السينما ليست شاشة من ضوء، بل قلبٌ يخفق بالحكايات. في كل لقطة من “الشلاهبية” يضع بصمة من حبٍّ لهذا البلد ومن إيمانٍ بالإنسان. وكما يقول أحد النقاد: حين يُمسك الناصري بالكاميرا، لا يصوّر فيلماً، بل يكتب سيرة وطنٍ يتعلّم من وجعه كيف يبتسم.











