
لم يكن تزامن وصول الوزير الأول الجزائري إلى القاهرة نهار الخامس والعشرين من نونبر، ثم وصول الملك محمد السادس رفقة الشيخ محمد بن زايد مساء اليوم نفسه، حدثًا بروتوكوليًا عابرًا في حسابات السياسة الإقليمية. فالتقاطع الزمني والمكاني بين هذه الزيارات جاء في لحظة تتراكم فيها الضغوط الدولية على واحدة من أعقد بؤر التوتر في شمال إفريقيا، وهي الأزمة بين المغرب والجزائر على خلفية ملف الصحراء، الذي يعرف منذ القرار الأممي الأخير تحولات نوعية في ميزان القوة الدبلوماسية.
القرار الدولي الأخير لم يكتفِ بتجديد ولاية بعثة المينورسو، بل أعاد تثبيت المقاربة المغربية للحكم الذاتي باعتبارها الحل “الواقعي والعملي”، في مقابل تضييق غير مسبوق لهامش المناورة السياسية للجزائر داخل مجلس الأمن. هذا التحول لم يبلغ مستوى العزلة الدولية الشاملة للجزائر، لكنه نقلها بوضوح إلى وضعية دفاعية داخل هذا الملف تحديدًا، بعد سنوات كانت فيها تُقدّم نفسها كطرف غير مباشر في النزاع. الصيغة الجديدة للقرارات جعلت الجزائر في صلب المسؤولية السياسية، لا على هامشها، وهو تطور استراتيجي بالغ الدلالة.
في هذا السياق، برز عنصر جديد شديد الأهمية تمثّل في تصريح سابق لأحد الدبلوماسيين الأميركيين، أكد فيه أن وساطة تُدار من أجل إحداث صلح بين المغرب والجزائر، وأن هذا المسار يجب أن يُحسم في غضون مهلة لا تتجاوز ستين يومًا. هذه الإشارة الزمنية الدقيقة، غير المسبوقة في مسار هذا النزاع المزمن، تعكس على الأرجح انتقال الملف من دائرة التدبير البطيء إلى منطق الضغط المتحكم فيه، حيث يُراد احتواء التوتر قبل أن يتحول إلى مصدر تهديد مباشر للاستقرار الإقليمي، خصوصًا في ظل هشاشة منطقة الساحل، وتحوّل الأمن الطاقي إلى ورقة جيواستراتيجية مركزية في الحسابات الغربية.
في الداخل الجزائري، لا يمكن فصل هذا التحرك الخارجي عن السياق المؤسساتي الداخلي. فالتقارير غير الرسمية المتداولة حول الوضع الصحي للرئيس عبد المجيد تبون، وما يُقال عن تراجع قدرته على مواكبة كل الملفات الثقيلة بنفس الإيقاع السابق، دفعت، وفق قراءات متقاطعة، إلى تفعيل أكبر لدور الجهاز التنفيذي، حيث تحرّكت دوائر القرار العميق لتأمين استمرارية التمثيل الخارجي عبر رئيس الحكومة. حضور الوزير الأول الجزائري في القاهرة في هذا التوقيت لا يمكن قراءته فقط في إطار اللجنة العليا المشتركة مع مصر، بل ضمن سياق أوسع يتم فيه إعادة توزيع أدوار القرار في لحظة إقليمية دقيقة.
في الجهة المقابلة، دخل المغرب هذه المرحلة من موقع سياسي مختلف. فالمكاسب الدبلوماسية المتراكمة منذ الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، واتساع دائرة الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي، منحت الرباط هامشًا أوسع للمناورة، وجعلتها طرفًا تفاوضيًا في موقع قوة نسبية. غير أن هذا التفوق الدبلوماسي لا يعفي المغرب من كلفة استمرار القطيعة مع الجزائر، سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي أو الإقليمي، ما يجعل أي مسار تهدئة محتمل ذا قيمة استراتيجية، حتى إن كان الثمن السياسي له مرتفعًا.
في هذا المشهد المركّب، تبرز مصر كفاعل مركزي مرشّح للعب دور الوسيط. فالقاهرة تحتفظ بعلاقات متوازنة مع الرباط، ولم تقطع قنواتها مع الجزائر، كما أنها تشكّل شريكًا استراتيجيًا مهمًا لدول الخليج، وتملك خبرة طويلة في إدارة الملفات الحساسة ذات البعد العربي المشترك. تزامن وجود هذه الأطراف في القاهرة في التوقيت نفسه يمنح فرضية إطلاق قناة حوار غير معلنة بعض المصداقية، خصوصًا إذا أُخذ بعين الاعتبار الضغط الأميركي المرتبط بمهلة زمنية محددة.
الوساطة، إن كانت قد بدأت فعلًا، فهي على الأرجح تشتغل بمنطق التهدئة المرحلية أكثر من البحث عن تسوية نهائية فورية. فالنزاع بين المغرب والجزائر لا يتغذّى فقط من ملف الصحراء، بل من تراكمات تاريخية عميقة، وصراع نفوذ إقليمي، وتناقض في الرؤى الاستراتيجية. لذلك، فإن أي اختراق محتمل سيكون في الغالب محدودًا في مرحلته الأولى، ويهدف إلى خفض منسوب التوتر، وفتح قنوات أمنية أو سياسية غير معلنة، قبل المرور إلى أي صيغة تفاوض علنية.
السيناريوهات المفتوحة اليوم يمكن تلخيصها في ثلاثة اتجاهات: إما نجاح وساطة هادئة تفضي إلى تهدئة تدريجية دون إعلان مصالحة شاملة، أو تعثّر المسار بفعل حسابات داخلية في أحد الطرفين، أو تحوّل الضغط الدولي إلى عنصر تصعيد غير مباشر إذا فشلت مهلة الستين يومًا في تحقيق أي اختراق ملموس. وفي جميع الحالات، فإن المرحلة الراهنة لا تشبه ما قبلها، لأن عنصر الزمن دخل بقوة إلى معادلة القرار، بعدما ظل هذا النزاع لعقود رهين منطق التجميد المفتوح.
ما جرى في القاهرة بذلك لا يمكن قراءته كحدث معزول، بل كجزء من حركية إقليمية أوسع يُعاد فيها ترتيب الأولويات تحت ضغط التحولات الدولية الكبرى. فالطاقة، والأمن في الساحل، والاستقرار في غرب المتوسط، كلها عوامل تجعل من استمرار الصدام المغربي–الجزائري كلفة استراتيجية لم تعد كثير من الأطراف راغبة في تحملها إلى ما لا نهاية.










