
في كل عام، يقف الزمان على أطهر بقعة، في أطهر يوم، ليشهد واحدًا من أعظم المشاهد الإنسانية والروحية: يوم عرفة. اليوم التاسع من ذي الحجة، يوم المشاعر الفياضة، والدموع المنسكبة، والدعوات الصادقة، يوم يتنزل فيه الغفران، وتُعتق فيه الرقاب من النيران، وتُرفع فيه الأيدي إلى السماء، رجاءً في رحمة لا تنفد.
أصل التسمية والقصــة
عرفات، أو يوم عرفة، يعود اسمه حسب روايات كثيرة إلى أنه اليوم الذي “تعرف” فيه آدم على حواء بعد هبوطهما إلى الأرض، أو لأن الحجاج “يتعارفون” فيه على صعيد واحد، أو لأن الناس “يعترفون” بذنوبهم ويتوبون.
وفيه يقف الحجيج من زوال الشمس إلى غروبها على صعيد عرفات، في موقف تتجرد فيه القلوب من زخرف الدنيا، وتتوحد فيه الألسنة بالدعاء والرجاء، في مشهد لا يشبهه شيء في هذا العالم.
مكانته في الإسلام
قال رسول الله ﷺ:
“الحج عرفة”
رواه الترمذي وأبو داود، وهذا يدل على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم، من فاته فقد فاته الحج.
وقد نزل في يوم عرفة قوله تعالى:
“اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا”
[المائدة: 3]
وهذه من أعظم آيات التمام والكمال التي نزلت على النبي ﷺ، وأشار إليها اليهود باعتبارها لو نزلت في ملتهم لاتخذوها عيدًا.
فضل يوم عرفة لغير الحجاج
هذا اليوم العظيم لا يخص الحجاج وحدهم، بل جعله الله موسمًا للمغفرة ورفع الدرجات لكل من يصومه ويتقرب فيه إلى الله.
قال النبي ﷺ:
“صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده”
(رواه مسلم)
وفي الحديث الآخر:
“ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة”
(رواه مسلم)
الدعاء في عرفة.. لا يُرد
يُستحب في هذا اليوم الإكثار من الدعاء، خاصة هذا الذكر المبارك الذي وصفه النبي ﷺ بأعظم الدعاء:
“لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير”
وفي يوم عرفة تفتح أبواب السماء، وتُرفع الحجب بين العبد وربه، ويستجيب الله دعاء من أخلص النية وتضرّع قلبه قبل لسانه.
لحظة تأمل..
يوم عرفة ليس مجرد تاريخ على التقويم، بل هو محطة سنوية للتوبة، والرجوع إلى الله، والبدء من جديد. إنه فرصة يغتسل فيها القلب من همومه، والنفس من غفلتها، والروح من ضعفها، ليعود الإنسان إلى فطرته الأولى: خاشعًا، تائبًا، نقيًا.
كلمة أخيرة:
في يوم عرفة، يعتق الله عباده، ويفتح أبواب السماء للداعين، ويمنح فرصة لا تُقدّر بثمن. سواء كنت حاجًا واقفًا في عرفات، أو مسلمًا صائمًا في بلده، فإن الله قريب، يسمع ويرى، وينتظر منك فقط أن تطرق بابه.
نسأل الله أن يبلغنا هذا اليوم المبارك، وأن يجعلنا فيه من المرحومين والمقبولين، وأن يعتق رقابنا ورقاب والدينا وأحبابنا من النار.