أراء وكتاب

قراءة في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة: ضغوط على أوروبا وفرص لإعادة التوازن العالمي

عبد الله مشنون كاتب صحفي ومحلل سياسي مقيم في إيطاليا مهتم بالشؤون العربية، قضايا الهجرة والاسلام

تعكس الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأمريكي الصادرة في ديسمبر 2025 تحوّلاً جوهرياً في فلسفة الدور الدولي للولايات المتحدة، ليس فقط لأنها تضع قيوداً على الالتزامات العسكرية الأمريكية التقليدية، أو لأنها تعيد ترتيب أولويات النظام الدولي وفق رؤية أكثر واقعية وأقل انخراطاً في إعادة تشكيل العالم، بل لأنها تقدّم تصوراً جديداً عن كيفية إدارة واشنطن للعلاقات مع حلفائها وخصومها على السواء. في قلب هذا التحول يبرز موقف مختلف جذرياً من أوروبا، كما تبرز عودة قوية إلى توظيف الرسوم الجمركية والسياسات الحمائية في التجارة الخارجية باعتبارها أدوات مباشرة لتعزيز المصالح الأمريكية، في تناقض واضح مع المبادئ الليبرالية التي شكّلت السياسة التجارية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

من الواضح أن الوثيقة الجديدة لا ترى أوروبا بوصفها الشريك الطبيعي الذي يستند إليه النظام الغربي، بل باعتبارها منطقة تواجه اضطراباً داخلياً وتراجعاً اقتصادياً وصعوداً للقوى الشعبوية واهتزازاً في الثقة بالنموذج الديمقراطي، وكلها عوامل تجعل مساهمتها في شراكة استراتيجية مع واشنطن أقل وزناً. على هذا الأساس، تتعامل الاستراتيجية مع أوروبا بنبرة أقل حماسة، وأقرب إلى النقد الصريح الذي يحمّل بعض الدول الأوروبية مسؤولية ما تسميه الوثيقة «التدهور الحضاري» المرتبط بالهجرة، وضعف السيطرة على الحدود، وتراجع القاعدة الصناعية. هذه اللغة لا تعكس فقط موقف إدارة معينة في البيت الأبيض، بل تكشف عن قراءة أمريكية جديدة ترى أن أوروبا لم تعد قادرة على تحمّل دورها التقليدي في الدفاع عن النظام الدولي أو دعم الأعباء الاستراتيجية الأمريكية في العالم.

هذا التحول له جذور واقعية. فالحرب الروسية–الأوكرانية استنزفت القدرات الأوروبية، وأظهرت أن القارة غير مهيّأة لصراع طويل المدى مع روسيا، وأن اعتمادها على الدعم الأمني الأمريكي أعمق مما كانت تعترف به علناً. بل إن بعض التقديرات داخل واشنطن ترى أن استمرار الاعتماد الأوروبي على المظلّة الأمنية الأمريكية يمثّل عبئاً لا يمكن تحمّله إذا كانت الولايات المتحدة تريد التركيز على صعود الصين في آسيا ومنافسة القوى الصناعية الكبرى. ولذلك، تتحرك الاستراتيجية الجديدة نحو «إعادة توزيع الأعباء» بدل الاستمرار في ضمان الأمن الأوروبي بلا حدود، وهو ما يعني عملياً مطالبة أوروبا بتحمل مسؤوليات أكبر في الدفاع والإنفاق العسكري، من دون أن يقابله بالضرورة زيادة في الالتزام الأمريكي تجاهها.

إلى جانب هذا التحول السياسي والاستراتيجي، تكشف الوثيقة عن توتر اقتصادي متزايد بين الولايات المتحدة وأوروبا. فالرؤية الجديدة للأمن القومي تدمج الاقتصاد بشكل مباشر في منظومة الأمن، وتعتبر أن استعادة القاعدة الصناعية الأمريكية وتقليل اعتمادها على الواردات –حتى لو كانت من شركاء تاريخيين– هو شرط أساسي لإعادة بناء القوة الوطنية. ولذلك، تتبنى الوثيقة نهجاً حمائياً صريحاً، يعيد الاعتبار للتعريفات الجمركية كأداة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، وليس مجرد سياسة تجارية. وبذلك تتحول الرسوم الجمركية من إجراء اقتصادي إلى وسيلة ضغط على الحلفاء وخصومهم، وإلى وسيلة لضبط سلاسل التوريد العالمية وإعادة صناعات معينة إلى داخل الولايات المتحدة.

هذا التحول يضع أوروبا في موقع حساس. فمثلاً، الصناعات الألمانية والفرنسية، خصوصاً في قطاعات السيارات والتكنولوجيا والطاقة النظيفة، تواجه تهديداً حقيقياً من السياسات الأمريكية الجديدة التي تفرض رسوماً على الواردات الأوروبية أو تمنح دعماً ضخماً للصناعة المحلية على نحو يجعل المنافسة غير عادلة. ومن منظور أوسع، تقوض هذه السياسات الأساس النظري الذي قامت عليه الشراكة الاقتصادية عبر الأطلسي، والمبني على التجارة الحرة وانفتاح الأسواق وتقليل الحواجز. ومع ذلك، تعطي الاستراتيجية الأمريكية الأولوية المطلقة لإعادة توطين الصناعات الاستراتيجية، وقطع الطريق على الصين في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، حتى لو كانت أوروبا هي المتضرر الأول.

ورغم هذا المشهد المليء بالهواجس، لا يمكن التقليل من مكانة أوروبا كقوة عظمى كامنة. فالقارة العجوز، التي تضم أكبر سوق موحدة في العالم، تمتلك قدرات تكنولوجية وصناعية وعلمية لا يستهان بها. وإمكاناتها البشرية والتعليمية تجعلها –نظرياً وعملياً– مؤهلة لقيادة التحولات العالمية في مجالات الطاقة النظيفة، والذكاء الاصطناعي، والصناعات المتقدمة.
إن ما تحتاجه أوروبا ليس المعجزات، بل تجديد في الرؤية السياسية، وإرادة في تجاوز الخلافات البينية، وترسيخ لثقافة التكامل الاستراتيجي. فالوحدة الأوروبية –إذا أعيد بناؤها على أسس متينة– قادرة على إنتاج قوة تقف جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة والصين، لا أن تكون مجرد تابع أو متلقٍّ لتقلبات الآخرين.

ولعل أحد أبرز مصادر قوة أوروبا هو تماسك شعوبها وتشبّثها بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، رغم كل الأزمات التي مرّت بها القارة خلال العقدين الأخيرين. فالأوروبيون، بخلاف ما يروّج البعض، ليسوا مجتمعات تتجه نحو الانقسام أو الانغلاق، بل مجتمعات تسعى إلى صون نموذجها الاجتماعي، وتحرص على حماية منظومة القيم التي بنتها بعد الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من صعود بعض الحركات اليمينية المتطرفة في دول عدة، فإن المجتمعات الأوروبية في جوهرها مجتمعات منفتحة ومتسامحة، تحترم التعدد الثقافي والإثني والديني، وتعمل على نشر ثقافة التعايش التي أصبحت جزءاً من بنيتها الاجتماعية والإنسانية. وهذه الروح المدنية هي التي تجعل أوروبا قادرة، إذا توفرت القيادة السياسية الرشيدة، على تجاوز موجات الشعبوية والعنصرية، كما تجاوزت سابقاً أزمات اقتصادية وسياسية أكثر قسوة.

ولا يمكن الحديث عن مستقبل أوروبا دون التأكيد على أن الدعم الأمريكي –إذا استمر بالقوة نفسها– يمثل رافعة لا غنى عنها لاستعادة الاستقرار الاستراتيجي للقارة. فالشراكة العابرة للأطلسي لم تكن مجرد تحالف عسكري ضمن حلف الناتو، بل كانت شبكة أمان سياسية واقتصادية وتقنية مكّنت أوروبا من إعادة بناء نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، ومن مواجهة أزمات القرن العشرين.
إن مستقبل القارة الأوروبيّة قد يظل واعداً، بل وربما رائداً على الساحة العالمية، إذا ظلّت واشنطن ملتزمة بدعم الدول الأوروبية في تعزيز قدراتها الدفاعية، وتطوير صناعاتها التكنولوجية، والحفاظ على انفتاح أسواقها. فالتكامل بين أوروبا والولايات المتحدة يمكنه –إذا أُحسن استثماره– أن يشكّل أقوى محور ديمقراطي واقتصادي في العالم، بديلاً عن التنافس الصيني–الأمريكي الذي يهدد مستقبل النظام الدولي.

إن القارة الأوروبية –برغم أزماتها– تقف اليوم في مفترق طرق تاريخي:
فإما أن تستثمر قوتها الناعمة، وتستعيد زخمها الاقتصادي والعلمي، وتبني منظومة دفاعية مشتركة تعزز استقلاليتها،
وإما أن تستمر في الارتهان لتقلبات السياسة الأمريكية، بما لذلك من مخاطر على استقرارها ومكانتها.
لكن المؤكد أن أوروبا ليست ضعيفة كما يصوّرها البعض، وليست مهددة بالانهيار كما يروج آخرون. فهي قارة تعرف كيف تنهض من الرماد، وكيف تبني من الأزمات فرصاً، إذ يعكس تاريخها الطويل قدرة نادرة على التحول والابتكار والتجدد.
والتحدي الحقيقي اليوم ليس غياب القوة، بل غياب القرار الموحد والإرادة السياسية الجامعة.

تفسير هذا التحول يتطلب فهماً أوسع لمشهد القوة الراهن. فالنظام الدولي لم يعد بنية اقتصادية منفتحة كما كان في حقبة ما بعد الحرب الباردة، بل أصبح ساحة تنافس شرس على التكنولوجيا وسلاسل التوريد والمواد الخام النادرة والطاقة. وفي مثل هذا السياق، تنظر واشنطن إلى الرسوم الجمركية ليس باعتبارها عبئاً أو إخلالاً بالتجارة الحرة، بل باعتبارها أداة دفاعية تحمي الاقتصاد الوطني، وتمنع الخصوم من الوصول إلى الأسواق الأمريكية، وتضمن بقاء الصناعات الاستراتيجية داخل الحدود. ومن الواضح أن هذا التوجه لا يعني فقط مواجهة الصين، بل يطال أيضاً الشركاء الذين ترى واشنطن أنهم يستفيدون من السوق الأمريكية من دون مساهمة متكافئة في الأمن أو في إعادة تشكيل سلاسل التوريد.

بالنسبة لمستقبل العلاقات الأمريكية–الأوروبية، يفتح هذا التحول الباب أمام مرحلة معقدة من التوتر الهيكلي، إذ لم تعد واشنطن تنظر إلى أوروبا كحليف متكامل، بل كشريك يمكن التعاون معه حين تتقاطع المصالح، ومواجهته حين تتعرض الأولوية الأمريكية للخطر. وفي المقابل، تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى التعامل مع إدارة أمريكية ترى أن حماية الصناعات المحلية أكثر أهمية من الحفاظ على شراكة اقتصادية عابرة للأطلسي، وأن إعادة بناء قوة أمريكا الداخلية لا يمكن أن تتم من دون فرض قيود على الواردات، بما في ذلك الواردات القادمة من الحلفاء.

مع ذلك، فإن هذا التحول لا يلغي العلاقة الاستراتيجية بين الطرفين. الولايات المتحدة لا تزال تعتبر التحالف مع أوروبا ضرورياً لاحتواء روسيا، وللتعامل مع التوترات في القارة، ولإدارة النظام الدولي في مؤسسات متعددة الأطراف. لكن الفكرة الأساسية التي تروج لها الاستراتيجية الجديدة هي أن «الشراكة لا تعني التبعية»، وأن على أوروبا أن تتحمل حصتها من التكاليف العسكرية والاقتصادية، وأن تتوقف عن التعويل على واشنطن في كل الأزمات المتعلقة بالهجرة والطاقة والحدود، وأن تعيد بناء قواعدها الصناعية بما يسمح لها بالاستقلال استراتيجياً.

ومع أن الوثيقة لا تذكر ذلك بشكل مباشر، إلا أن بعض التحليلات ترى أن السياسة الأمريكية الجديدة تجاه أوروبا تحمل أيضاً جانباً انتخابياً داخلياً. فالصناعة الأمريكية والطبقة العاملة الصناعية أصبحت تمثل قاعدة أساسية لأي أغلبية انتخابية مستقرة، وقد أثبتت السنوات الماضية أن الناخب الأمريكي بات أكثر حساسية لقضايا التجارة والتصنيع والوظائف المحلية. ولذلك، فإن تبني إدارة البيت الأبيض لسياسات حمائية قوية يعكس أيضاً محاولة تثبيت قاعدة سياسية داخلية عبر إظهار الحزم في مواجهة المنافسين التجاريين، سواء كانوا من الشرق أو حتى من الحلفاء في الغرب.

في المحصلة، تكشف الاستراتيجية الأمريكية لعام 2025 عن انتقال واضح من شراكة عبر أطلسية كانت تُعدّ محور النظام الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، إلى علاقة أكثر براغماتية وندية، وربما أكثر هشاشة. كما تكشف عن رؤية جديدة للقوة الأمريكية تعتبر أن استعادة القاعدة الصناعية، وتشديد القيود على التجارة، واستخدام الرسوم الجمركية كأداة ضغط، هي شروط ضرورية لضمان استمرار التفوق الأمريكي في عالم يتغير بسرعة. وفي الوقت ذاته، تضع هذه الاستراتيجية أوروبا أمام لحظة حقيقية من المراجعة الذاتية: إما أن تعيد بناء قدراتها الصناعية والعسكرية لتصبح شريكاً قادراً على مواكبة التحولات الجديدة، أو أن تواجه مزيداً من التهميش في هيكل القوة العالمي الذي يعاد تشكيله الآن على أسس مختلفة تماماً عن تلك التي عرفناها في العقود الماضية.

Ahame Elakhbar | أهم الأخبار

جريدة أهم الأخبار هي جريدة مغربية دولية رائدة، تجمع بين الشمولية والمصداقية، وتلتزم بالعمل وفقًا للقانون المغربي. تنبع رؤيتها من الهوية الوطنية المغربية، مستلهمة قيمها من تاريخ المغرب العريق وحاضره المشرق، وتحمل الراية المغربية رمزًا للفخر والانتماء. تسعى الجريدة إلى تقديم محتوى يواكب تطلعات القارئ محليًا ودوليًا، بروح مغربية أصيلة تجمع بين الحداثة والجذور الثقافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا