
في أفق سنة تفصل المغرب عن الإنتخابات التشريعية لسنة 2026، تَبرُز على الساحة السياسية مؤشرات جديدة تستدعي قراءة هادئة ومتأنية. فقد أصبح النقاش حول الأداء الحكومي والتفاعل مع مطالب الشباب، خصوصا جيل Z، أكثر حضورا وإلحاحا في الفضاء العمومي.
هذا المقال لا يتخذ موقفا شخصيا تجاه رئيس الحكومة أو رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، بل يسعى إلى تحليل تجربة التدبير الحكومي من منظور الإبتكار المفتوح، وقياس أثرها على المواطن والسياسات العمومية، بعيدا عن الإنفعال أو الخطاب العاطفي.
لن أتضامن مع شخص، بل مع المنطق المؤسَّسِي.
رغم أنني ما زلت رئيس لجنة الميزانية والشؤون المالية والبرمجة في المجلس الجماعي الذي يرأسه السيد عزيز أخنوش، فإن التضامن الشخصي لا يمكن أن يكون معيارا لتقييم الأداء العمومي. غير أن الملاحظة الموضوعية تكشف أن الرجل يشتغل بعقلية النتائج، ويتابع كل مشروع بدقة وتفصيل، في محاولة لترسيخ ثقافة الحكامة القائمة على الأثر والنتيجة. وهذا ما يسمح بتقييم التجربة الحكومية انطلاقا من مؤشرات واقعية لا من زاوية الإنتماء أو الولاء السياسي.
الحكومة الحالية، المكوَّنة من ثلاثة أحزاب رئيسية هي التجمع الوطني للأحرار، والأصالة والمعاصرة، والإستقلال، تواجه أحيانا ما يمكن وصفه بـ “التمييز السياسي”، إذ يُحمَّل حزب الأحرار ورئيس الحكومة وحدهما كامل المسؤولية عن كل تعثر، في حين أن منطق العمل التشاركي يستدعي توزيعا عادلا للمسؤولية والمحاسبة. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه المرحلة تميزت بإنجازات ملموسة تستحق التحليل قبل أي حكم نهائي.
توسيع التغطية الصحية الإجبارية لتشمل أكثر من اثنين وعشرين مليون مواطن شكل تحولا اجتماعيا نوعيا في مسار الدولة الإجتماعية، كما ساهم برنامج الدعم المباشر للأسر في التخفيف من هشاشة الفئات الفقيرة، رغم محدودية المبالغ المخصَّصَة. وقد ترافق ذلك مع تحسين نسبي في وضعية مهنيي الصحة والتعليم من خلال مراجعة الأجور وتوفير شروط مهنية أفضل، ما انعكس على جودة الخدمات الأساسية.
وفي ميدان التشغيل، أطلقت الحكومة برامج موجهة للشباب مثل “فرصة” و”انطلاقة”، اللتين مكنتا آلاف الشباب من تأسيس مشاريعهم الخاصة، وخلقت دينامية جديدة في الإقتصاد المحلي. أما على الصعيد الإقتصادي العام، فقد حافظ المغرب على توازن نسبي في سياق دولي مضطرب، واستمر في تطوير قطاعات الفلاحة والصناعة والطاقة المتجددة ضمن رؤية تقوم على التنويع والإبتكار.
لكن التحولات الأعمق لا تقتصر على السياسات الإقتصادية والإجتماعية، بل تمتد إلى التحول في علاقة الدولة بالشباب، ولا سيما جيل Z الذي لم يعد يقبل بالخطاب التقليدي. فقد أفرز هذا الجيل حركات رقمية جديدة، أبرزها “حركة GenZ212”، التي رفعت شعارات تُعبِّر عن وعي جديد بأولويات المرحلة، مثل “لا نريد المونديال، نريد الصحة والتعليم”.
وفي الوقت الذي تحاول فيه بعض الأصوات تسييس هذه المطالب أو اختزالها في ردود فعل آنية، ينبغي النظر إليها كمؤشر على يقظة مجتمعية ناضجة، ورغبة في إعادة ترتيب أولويات التنمية على قاعدة العدالة والفعالية.
وقد امتدت أصداء هذه الدينامية حتى خارج الوطن، إذ عبَّر عدد من شباب الجالية المغربية بفرنسا عن نفس المطالب أمام السفارة المغربية، في تعبير حضاري عن الإنتماء والمسؤولية المشتركة. هذه التعبيرات الشبابية، رغم اختلاف أشكالها، تعبِّر عن وعي عالمي متجدد يربط بين الحقوق الإجتماعية ومفهوم المواطَنة الفاعلة، ما يفرض على الدولة أن تتعامل معها بمنطق الحوار والإصغاء لا بمنطق الدفاع أو التجاهل.
إن التحليل الموضوعي يفرض التذكير بأن الإصلاح لا يُختزل في الأشخاص، بل في المنظومات. التضامن الحقيقي إذا ليس مع أخنوش كشخص، بل مع منطق الدولة المبتكِرة التي تقوم على الإبتكار المفتوح، وعلى ثقافة النتائج، وعلى إشراك المواطن في صياغة القرار العمومي. إن هذا التحول نحو “الدولة المبتكرة” لا يُقاس بالشعارات، بل بمدى قدرة المؤسسات على إنتاج الحلول وتجويد الحياة اليومية للمواطنين.
اليوم، نحن أمام لحظة مفصلية تقتضي من النخبة السياسية والإدارية إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، من خلال شفافية الإنجازات، وفعالية الإستثمار الإجتماعي، وتوسيع دائرة المشاركة والمساءلة. فجيل Z لا يطالب بالمستحيل، بل بالمعقول والملموس: صحة حقيقية، تعليم ناجع، وفرص شغل تتيح الكرامة والمستقبل.
نحن هنا لا نبرئ أي فاعل حكومي، ولا نحاول تبييض صورة رئيس الحكومة الحالي، فهو رئيس حكومة كسابقيه، يشتغل في بيئة معقدة ومثقلة بإرث سياسي ومؤسساتي لا يمكن تجاوزه بشعارات أو نوايا فقط. المسألة لا تتعلق بشخص بل بمنطق الدولة، والرهان ليس في تغيير الوجوه بل في تغيير الآليات والمنهجيات. أما الإستمرار في التهجم على الأشخاص وتغذية الصراعات السياسوية فذلك لن ينتج سوى مزيد من الإحباط، والعودة إلى نفس الحلقة المفرغة.