صحة

متلازمة غيلان باريه المرض الذي يسرق الجسد بصمت

في زوايا خفيّة من عالم الطب، حيث لا تصل عدسات الإعلام، تعيش أمراض نادرة لا تُصيب إلا القليل، لكنها تترك أثرًا موجعًا وعميقًا في حياة المصابين بها. من بين هذه الأمراض، تبرز متلازمة نادرة تُعرف باسم “متلازمة غيلان باريه”، والتي تحوّل جسد الإنسان في أيام قليلة من قوة وحركة إلى عجز وصمت عصبي غامض.

تبدأ القصة غالبًا بأعراض بسيطة لا تُثير القلق: وخز في القدمين، تنميل خفيف في الأصابع، إرهاق غير مبرر، أو ضعف في الساقين. لكن خلال ساعات أو أيام، يتصاعد الخطر بصمت، ويبدأ الجهاز العصبي في التعرّض لهجوم ذاتي، حيث يهاجم جهاز المناعة أعصاب الجسم بدل حمايته، فتضعف العضلات تدريجيًا، وقد يصل الأمر إلى شلل كامل يشمل عضلات التنفس.

هذا المرض لا يُعدي، ولا يُورّث في أغلب الحالات، لكنه غالبًا ما يظهر بعد عدوى فيروسية بسيطة، مثل الزكام أو الإنفلونزا أو اضطرابات معوية، وكأن الجسد يخرج من معركة صغيرة ليدخل في حرب داخلية غير متوقعة. الأصعب في الأمر أن المريض يكون واعيًا بكل ما يحدث، يشعر بقدميه تخذلانه، وبأنفاسه تضيق، بينما الأوامر العصبية لا تجد طريقها إلى العضلات.

الطب الحديث لا يملك إلى اليوم علاجًا نهائيًا لهذا المرض، لكنه يملك بروتوكولات إسعاف دقيقة تقلّل من خطورته بشكل كبير، أهمها التدخل السريع عبر تصفية البلازما أو حقن الأجسام المناعية الوريدية، ومراقبة التنفس بشكل لصيق داخل أقسام الإنعاش. وكل ساعة تأخير قد تكون فاصلة بين الشفاء التام أو العجز الدائم.

ورغم رعب الأعراض، فإن بارقة الأمل حاضرة بقوة، فمعظم المصابين يستعيدون عافيتهم تدريجيًا خلال أشهر، ويعودون إلى المشي والحركة بعد رحلة علاج وتأهيل طويلة تختبر صبرهم الجسدي والنفسي معًا. غير أن التجربة تترك في كثير من الأحيان آثارًا نفسية عميقة، من الخوف والقلق إلى الاكتئاب واضطرابات النوم، ما يجعل الدعم النفسي جزءًا لا يتجزأ من الشفاء.

الصادم في هذا المرض النادر ليس فقط ندرته، بل جهل الناس به، وتأخر التشخيص في العديد من الحالات بسبب تشابه أعراضه الأولى مع التعب العادي أو نقص الفيتامينات. وهنا تكمن الخطورة الحقيقية: الاستهانة بإشارات الجسد الأولى.

الصحة، التي لا نشعر بقيمتها إلا عند اهتزازها، تُذكّرنا عبر مثل هذه الأمراض النادرة أن أجسادنا منظومة دقيقة، وأن الوعي الصحي ليس ترفًا، بل خط دفاع أول أمام المجهول. فتنميل بسيط قد يكون رسالة استغاثة، وإرهاق صامت قد يكون إنذارًا لا يحتمل التأجيل.

وفي زمن السرعة والضغوط، يبقى الإنصات للجسد أحد أنقى أشكال الوقاية، لأن بعض الأمراض لا تطرق الباب بعنف، بل تهمس… ثم تقتحم كل شيء.

جواد مالك

مدير عام و رئيس تحرير جريدة أهم الأخبار الدولية. أمين عام الإتحاد الدولي للشعراء والأدباء العرب (فرع المملكة المغربية). أمين سر منظمة أواصر السلام العالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا