
تمثل مدارس الريادة اليوم أحد أهم التحولات الهادئة في مسار إصلاح المنظومة التعليمية بالمغرب، لا بوصفها تجربة تقنية أو مشروعا إداريا محدود الأثر، بل باعتبارها نموذجا جديدا للحكامة التربوية ولطريقة تفكير الدولة في علاقتها بالمدرسة العمومية. لقد تجاوز النقاش حول جودة التعليم مرحلة التشخيص إلى مرحلة البحث عن أدوات عملية تُعيد للمدرسة قدرتها على الفعل، وثقة المجتمع في قدرتها على التغيير من الداخل.
فلسفة مدارس الريادة تقوم على فكرة جوهرية مفادها أن التغيير لا يُملى من الأعلى، بل يُبنى من داخل المؤسسة التربوية، عبر تحفيز روح القيادة والمسؤولية لدى الأطر التربوية والإدارية، وتشجيع المبادرة المحلية والتجريب. هذا التحول في فلسفة التدبير يجعل من المدرسة فضاء للتفاعل والإبداع، ويمنح الأساتذة والإداريين موقع الفاعل لا المنفذ. ومن هنا تكتسب التجربة المغربية في الريادة طابعا مؤسسيا عميقا لأنها تربط بين الإستقلالية والمساءلة، وبين الثقة والنتائج.
ورغم أن بعض الأصوات تسعى إلى التقليل من قيمة هذه التجربة، معتبرة أنها لم تُحدِث بعد التغيير المنشود في الأرقام والمؤشرات، فإن القراءة الأكاديمية تظهر أن أثر مدارس الريادة يتجاوز الأرقام إلى بناء ثقافة جديدة داخل المنظومة. لقد بدأت تتشكل ممارسات يومية تعكس روح الفريق، وتحفز المبادرة، وتخلق دينامية تربوية تعيد الإعتبار للتعليم كركيزة أساسية في بناء التنمية. فالمؤشرات الميدانية تبين تحسنا في نسب المواظبة، وانخفاضا في حالات الهدر المدرسي، وتزايدا في مشاركة الأسر في الحياة المدرسية، وهو ما يعكس تحسنا في الثقة العامة بالمؤسسة التربوية.
مدارس الريادة ليست فقط إصلاحا تعليميا، بل هي أيضا شكل من أشكال الإبتكار العمومي، لأنها تجسد تَحوُّلاً في طريقة إدارة السياسات العمومية نفسها. فبدل منطق الإصلاح المركزي الذي يفرض القرارات من الأعلى، يتم الإنتقال إلى منطق التجريب المحلي القابل للتعميم التدريجي، وهو ما ينسجم مع اتجاهات الحكامة الحديثة التي تربط الفعالية بالمرونة وبالقدرة على التعلم المؤسسي المستمر.
هذه التجربة تشكل أيضا تمرينا على إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، لأن المدرسة هي أول مرآة لنجاعة السياسات العمومية. حين يرى المواطن مدرسة نظيفة، منظمة، قادرة على الإبتكار، حين يلاحظ أن الأساتذة منخرطون بوعي ومسؤولية، وأن الإدارة تتفاعل بشفافية مع المجتمع، فإن الثقة تتولد بشكل طبيعي. إن هذه الثقة هي أساس أي تحول سياسي واجتماعي.
محاولات التقليل من مجهودات مدارس الريادة تعكس في الغالب سوء فهم لطبيعة الإصلاح الحقيقي، إذ أن التغيير في التعليم لا يمكن أن يكون فُجائيا أو محكوما بنتائج آنية، بل هو عملية تراكمية طويلة الأمد تتطلب الصبر، والوضوح، والقدرة على التعلم من الخطأ. من هذا المنطلق، فإن ما تحقق خلال فترة وجيزة يُعَد مؤشرا إيجابيا على أن الإصلاح بدأ يجد طريقه نحو الفعل المؤسساتي، وأن المدرسة العمومية بدأت تستعيد تدريجيا موقعها كفضاء للثقة والإبداع.
إن مدارس الريادة ليست فقط مدارس نموذجية أو تجريبية، بل هي رمز لثقافة جديدة في تدبير الشأن العام، ثقافة تقوم على المسؤولية، والمساءلة، والمبادرة، وهي القيم نفسها التي تحتاجها كل القطاعات لبناء دولة فعالة وعادلة. فنجاح المدرسة في التغيير هو في جوهره نجاح للمجتمع في إعادة اكتشاف ذاته، وفي تحويل المعرفة إلى أداة للنهوض الجماعي، لا إلى امتياز فردي.
إن تقييم التجربة يجب أن يتم من داخل منطقها لا من خارجها، وأن يُنظَر إليها كبذرة لإصلاح أوسع، وكإشارة إيجابية على أن المغرب قادر على أن يُبدع في الإصلاح بدل أن يستورد النماذج.
فحين تصبح الريادة ممارسة يومية في المدرسة، يمكن القول إن التعليم عاد ليكون مشروعا وطنيا جامعا، لا مجرد قطاع إداري.