سياسة

مصر وغزة: دور إقليمي في مفترق النار

أحدث الأخبار
مؤشرات الأسواق العالمية

في قلب الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، تقف مصر بثقلها التاريخي، ودبلوماسيتها العريقة، أمام واحدة من أعقد الأزمات التي تواجه المنطقة: الحرب في قطاع غزة. منذ اندلاع التصعيد الأخير، تعمل القاهرة بلا هوادة من أجل احتواء الأزمة وتخفيف تداعياتها الكارثية، واضعة في اعتبارها المعادلة الدقيقة بين الأمن القومي، والمصالح الإقليمية، والاعتبارات الإنسانية.

منذ اللحظة الأولى، أدركت مصر أن اشتعال الجبهة الجنوبية لغزة لا يهدد فقط الفلسطينيين، بل يهدد أمنها القومي المباشر. محافظة شمال سيناء، التي لطالما كانت ساحة لحرب ضد الإرهاب، باتت اليوم على تماس مباشر مع أزمة إنسانية وأمنية معقدة. الحكومة المصرية رفضت بشكل قاطع كل الطروحات التي تشير إلى إمكانية تهجير سكان القطاع إلى سيناء، معتبرة أن هذه المحاولات تشكل خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه، وستؤدي إلى تفجير الوضع الإقليمي برمته. وفي المقابل، كثفت القاهرة تحركاتها الدبلوماسية في كافة الاتجاهات، من واشنطن إلى موسكو، ومن الدوحة إلى بروكسل، مؤكدة أن الحل في غزة لا يمكن أن يكون عسكريًا، بل سياسيًا يضمن الحد الأدنى من الكرامة والحقوق للشعب الفلسطيني.

جهود مصر لا تقتصر على التنسيق السياسي فقط، بل تشمل أيضًا التنسيق الأمني والإنساني. المعبر الحدودي في رفح تحول إلى شريان الحياة الوحيد لقطاع غزة، وتحت إشراف مصري صارم، تدفقت قوافل الإغاثة، رغم الاستهداف الإسرائيلي المتكرر للمنطقة الحدودية. ومع ذلك، لم تمنع التحديات القاهرة من لعب دور الوسيط المحوري، ساعية إلى الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار، ومن ثم فتح مسار تفاوضي جاد يضمن مستقبلًا سياسيًا لقطاع غزة، بعيدًا عن شبح الحروب المتكررة.

لكن مهمة مصر ليست سهلة. إسرائيل، بقيادة حكومة يمينية متطرفة، تماطل في الدخول إلى المرحلة السياسية، وتستمر في فرض واقع ميداني جديد عبر اجتياحاتها المتواصلة لمدن الجنوب الفلسطيني، وعلى رأسها رفح. وفي الوقت ذاته، تتعالى أصوات داخل المجتمع الدولي تطالب القاهرة بأن تستخدم نفوذها على الفصائل الفلسطينية، لا سيما حماس، لفرض شروط تهدئة تتلاءم مع مصالح أطراف إقليمية ودولية، ما يضع الدبلوماسية المصرية في موقف دقيق بين الضغوط والاعتبارات السيادية.

ورغم كل هذه العقبات، تستمر القاهرة في أداء دورها ببراغماتية مدروسة، واضعة نصب أعينها هدفًا واضحًا: استعادة زمام المبادرة الإقليمية، والحفاظ على توازن الردع في بيئة مشتعلة. فهي تدرك أن غيابها عن مسرح الأزمة سيملأه لاعبون آخرون، لا يملكون ذات الحياد ولا ذات الالتزام بثوابت القضية الفلسطينية. ومن خلال هذا الدور، تسعى مصر إلى تثبيت معادلة جديدة في المنطقة، تكون فيها الوساطة المصرية عنوانًا للاستقرار، لا مجرد استجابة ظرفية للأزمات.

إن الدور المصري في غزة اليوم لا يمكن فصله عن تطلعات القاهرة الإقليمية الأوسع. فبين صراع النفوذ في شرق المتوسط، وتعقيدات الملف الليبي، والتنافس على النفوذ في البحر الأحمر، تأتي غزة لتكون اختبارًا حقيقيًا لإرادة مصر وقدرتها على إعادة بناء مكانتها كفاعل محوري لا غنى عنه في أي معادلة إقليمية. وربما يدرك العالم، متأخرًا، أن الحل لا يمر فقط عبر الممرات السياسية في واشنطن أو العواصم الأوروبية، بل عبر القاهرة… حيث لا تزال السياسة تُصاغ بلغة التوازن والمسؤولية.

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا