
شفشاون، تلك المدينة المتربّعة على كتف جبال الريف شمال المغرب، ليست مجرد مقصد سياحي، بل تجربة حسّية كاملة يعيشها الزائر منذ اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدماه أزقّتها الزرقاء. تبدو المدينة وكأنها خارجة من لوحة فنية، تتدرج ألوانها من الأزرق السماوي إلى النيلي العميق، في مشهد يلامس الروح قبل العين، ويمنح الزائر شعوراً بالسكينة يصعب أن يجده في أي مكان آخر. إنّها مدينة تصالح بين الجبل والإنسان، وبين الهدوء والحياة، وتعيد للمرء شيئاً من صفائه الداخلي.
يستقبل الزائر عبق التاريخ في كل زاوية من المدينة القديمة «القصبة»، حيث الأسوار الحمراء العتيقة، والأبواب الخشبية المزخرفة، وحديقة القصبة التي تتوسطها نافورة لا تزال تحتفظ بهدوئها الأندلسي. وفي قلب المدينة القديمة ينبض «ساحة وطاء الحمام» بالحياة، حيث تجتمع المقاهي التقليدية، والحرفيون، وباعة المنتجات المحلية، بينما يُسمع خرير مياه النوافير القديمة التي تضفي على المكان روحاً شفشاونية أصيلة. وتُعد الساحة نقطة انطلاق مثالية لاكتشاف ما يختبئ خلف الأزقة الضيقة التي تلتف كأنها متاهة جميلة تقودك نحو عالم آخر.
وتستمد شفشاون سحرها من لونها الأزرق الذي يكسو كل شيء: البيوت، الأدراج، الجدران، الأبواب، وحتى المزاهر المعلّقة. هناك من يقول إن هذا اللون مستوحى من الثقافة الأندلسية، ومنهم من يربطه باليهود الذين استقروا بالمدينة قديماً، فيما يرى البعض أنه مجرد اختيار جمالي يضفي على المكان طابعاً روحياً. لكن مهما اختلفت الروايات، يبقى المؤكد أن الأزرق في شفشاون ليس مجرد لون، بل هو هوية وروح وهدوء يسري في أوصال المدينة.
وإلى جانب جمالها العمراني، تُعد شفشاون بوابة مثالية للانغماس في طبيعة الريف المغربي، حيث تنتشر حولها المسارات الجبلية التي يقصدها عشّاق المشي والاستكشاف. ومن أبرز النقاط الطبيعية «رأس الماء»، المنبع الصافي الذي يتدفّق من أعالي الجبال، حيث يقف الزائر ليستمتع بصوت المياه وهي تنحدر بين الصخور، ويستظل بأشجار الجوز والتين التي تحفّ المكان. كما يمكن للزائر أن يتجه نحو «جبل السيدة الحرة» أو إلى محمية «تالاسيمت»، حيث المناظر الطبيعية التي تمنح الناظر فسحة من التأمل والمتعة.
ولا يمكن الحديث عن شفشاون دون الإشارة إلى حرفها التقليدية ومنتجاتها المحلية، من أغطية الصوف والأحذية الجلدية المميزة، إلى العسل الجبلي وزيت الزيتون الذي يُعد من أجود الأنواع. مشاهد الحرفيين في محلات صغيرة تفيض بالألوان، وهم ينحتون أو يخيطون أو يطرزون، تضيف لمسة إنسانية دافئة تجعل التجربة أكثر عمقاً وأصالة.
أما فنّ الطبخ الشفشاوني فهو حكاية أخرى من حكايات المدينة. فالمطاعم المحلية تقدم أطباقاً مغربية تقليدية بطابع جبلي خالص، خاصة الطواجن المعطرة بالأعشاب الجبلية، والكسكس الشمال المغربي، فضلاً عن شاي النعناع المنعش الممزوج بروح الضيافة التي تشتهر بها المدينة.
شفشاون ليست مجرد وجهة يزورها السياح، بل مدينة تُعاش، وتُحسّ، وتُكتشف خطوة خطوة. مدينة صغيرة بحجمها، كبيرة بتفاصيلها، تمنح زائرها فرصة نادرة للراحة، والهدوء، والتقاط الأنفاس بعيداً عن ضجيج المدن. إنها لؤلؤة زرقاء تحكي قصة جمال مغربي خالص، وتدعوك دائماً للعودة إليها مهما طال السفر.











