
لم يكن مشهد وقوف الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الكنيست الإسرائيلي حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل لحظةً تكثّف فيها المعنى السياسي والرمزي لما أصبحت عليه العلاقة بين واشنطن وتل أبيب. فحين التفت ترامب نحو المليارديرة ميريام أديلسون قائلاً: «قفي يا ميريام»، ثم أضاف بابتسامةٍ تحمل الكثير من الدلالات: «إنها تملك نحو 60 مليار دولار في البنك، أعتقد أنها تقول: كفى!»، كان في الواقع يوجّه خطابًا مزدوجًا: شكرٌ للمال، ورسالة ولاءٍ للنفوذ.
لم يكتف ترامب بالمجاملة، بل مضى ليقول عنها أمام الحضور: «نحن نحبكِ يا ميريام.. شكراً لكِ على حضوركِ، أنتِ امرأة عظيمة.» كلماتٌ ظاهرها الثناء، لكن باطنها يعكس معادلة القوة التي تحكم السياسة الأميركية الحديثة: المال أولاً، ثم القرار.
فميريام أديلسون، أرملة قطب الإعلام والقمار شيلدون أديلسون، ليست مجرد متبرعة ثرية؛ إنها واحدة من أكبر الداعمين السياسيين في تاريخ الولايات المتحدة. فقد تبرعت مؤخرًا بمبلغ 100 مليون دولار لدعم حملة ترامب الانتخابية، لتكون ثاني أكبر ممول له بعد الملياردير إيلون ماسك. بهذا الرقم وحده، تثبت أديلسون أن المال يمكن أن يُعيد تشكيل التحالفات، ويصنع موازين جديدة في البيت الأبيض قبل أن يُفتح بابه رسميًا.
ترامب، الذي يدرك جيدًا رمزية المال في اللعبة السياسية، استخدم هذا المشهد ليؤكد أن تحالفه مع إسرائيل لا يقوم على الدبلوماسية وحدها، بل على شبكة مصالح متينة تربطه بأثرياء اليهود الأميركيين الداعمين لإسرائيل. وبهذا يظهر أمام جمهوره المحلي والدولي كمن يملك حلفًا من المال والنفوذ قادرًا على حسم الانتخابات كما يحسم المواقف.
لكن ما يلفت في خطاب ترامب أنه لم يأتِ فقط لتكريم أديلسون، بل ليرسل رسالة أبعد مدى: أن طريق العودة إلى البيت الأبيض لا يمر عبر الحزب الجمهوري وحده، بل عبر الممولين الكبار الذين يرسمون بمالهم حدود الخطاب السياسي الأميركي تجاه إسرائيل والشرق الأوسط.
ومع أنّ حضوره إلى الكنيست جاء في إطار سياسي احتفالي، فإن كلماته لم تخلُ من الغمز الانتخابي والرسائل المقصودة. فقد ذكّر الجميع بأن عائلة أديلسون كانت من أكثر الزائرين للبيت الأبيض خلال رئاسته، وأنها أثّرت بوضوح في قراراته التاريخية مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.
في الجوهر، أعاد ترامب من خلال هذا الظهور إنتاج المشهد ذاته الذي طبع سنوات حكمه الأولى: رجلٌ يرى في المال حليفًا للسياسة، وفي الداعمين الماليين شركاء في صياغة القرار، لا مجرد ممولين لحملات انتخابية.
غير أن هذا التقاطع بين رأس المال والسياسة يثير أسئلة أعمق: إلى أيّ مدى يمكن للمال أن يوجّه بوصلة دولةٍ عظمى نحو مصالح ضيقة؟ وهل أصبحت القرارات الأميركية في الشرق الأوسط تُكتب بأقلام المتبرعين أكثر مما تُرسم بعقول الدبلوماسيين؟
إنّ ظهور ميريام أديلسون في الكنيست إلى جانب ترامب لم يكن مجرد لحظة مجاملة، بل تجسيدًا حيًا لتحالفٍ تتجاوز حدوده السياسة إلى صناعة القرار نفسه. فحين يتحدث المال، تصمت المبادئ، وتتحول المنابر إلى صدى لصوت الممولين الذين يملكون القدرة على تحريك التاريخ من خلف الستار.