أراء وكتاب

نحو فهم مقاصدي يتجاوز الانحياز والتأويل الخاطئ لآية التوبة 29 والجهاد…قراءة تنويرية للجالية المسلمة في المهجر

عبد الله مشنون كاتب صحفي ومحلل سياسي مقيم في إيطاليا مهتم بالشؤون العربية، قضايا الهجرة والاسلام

تزداد الحاجة اليوم، في السّياقات الأوروبية عمومًا والإيطالية خصوصًا، إلى إعادة بناء الوعي الديني على أسس علمية راسخة، في ظل اتساع دائرة التأويلات المرتجلة لآيات القرآن؛ ولا سيما آيات الجهاد؛ التي يقدّمها بعض الوعّاظ ممن لم يتلقّوا تكوينًا شرعيًا مؤصّلًا. هذه التأويلات لا تُنتج معرفة، بل تُنتج توترًا وتشدّدًا، وتخترق الوعي الديني للشباب، فتُبعدهم عن منهج العلماء الراسخين الذي يقوم على الفهم النقدي العميق والسياق التاريخي واللغوي للنصوص. وهنا تبرز أسئلة إشكالية ينبغي التوقف عندها:
كيف يُعاد إنتاج التطرف من خلال تأويلات مبتسرة لنص قرآني حمّال لطبقات ثقيلة من الدلالة؟
وما الذي يجعل آية واحدة تُقتطع من سياقها لتتحول إلى دليل على الصدام، بينما بنية الخطاب القرآني العام تؤسّس للعدل والسلم؟
هذه الأسئلة ليست ترفًا بل ضرورة بحثية، إذ إن معالجة الإشكال تتطلب العودة إلى أصول التفسير، لا إلى أهواء المفسّرين الجدد.

وقد اخترتُ الكتابة في هذا الموضوع لما ألمسه  من أسئلة وإشكالات يطرحها بعض الإخوة هنا في إيطاليا، نتيجة انتشار تأويلات خاطئة لآيات القرآن الكريم، ولا سيّما آيات الجهاد، التي يروّج لها أفراد لم يتلقّوا تكوينًا شرعيًا رصينًا، ولا يعرفون أصول التفسير ولا منهج الفقهاء. ومع ذلك يتصدرون منابر بعض المساجد، ويفتون بغير أدلة شرعية ويخوضون في آيات الله بغير علم، مما ولّد لدى بعض الشباب مواقف متشددة تبتعد عن الفهم الذي سار عليه العلماء الراسخون عبر التاريخ.
ومن مسؤوليتنا، في ظل هذا الواقع، أن نعيد الأمور إلى نصابها، وأن نُبيّن المعاني الصحيحة لآية التوبة 29، بالرجوع إلى كتب التفسير المعتمدة، والسياق التاريخي، ومقاصد الشريعة، بعيدًا عن الانتقاء والتجزيء والقراءات الانفعالية.
وهي رسالة أوجّهها إلى الجالية المسلمة عمومًا، وإلى الشباب خصوصًا: اطلبوا العلم من أهله، فإن الدين لا يُؤخذ من كل متكلم، بل من العلماء الثقات، كما قال السلف: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم». فالقرآن لا يُفسَّر بالرأي المجرّد، ولا بالظواهر المبتورة، بل بفهم منظومي متكامل يجمع بين اللغة والسياق والسنة وأقوال الأئمة. أمّا من يجعل مظاهر اللحية أو قصر الثوب معيارًا للعلم، ويقتحم مقام الإمامة والخطابة دون أهلية، فهو يسيء إلى نفسه وإلى المجتمع، ويشوّه صورة الدين قبل أن يشوّه نصوصه.

ولا يمكن فهم آيات الجهاد، ولا غيرها من النصوص الشرعية، دون الاستناد إلى علم أصول الفقه؛ ذلك العلم الذي وضع قواعد منهجية دقيقة لفهم الخطاب الإلهي، وربط الحكم بعلّته، والنص بسياقه، والجزئي بالكلي. فهو العلم الذي يمنع التسرّع في إصدار الأحكام، ويُعلّم الباحث كيف يفرّق بين القطعي والظني، وبين الثابت والمتغيّر، وبين ما نزل لمعالجة واقعة محددة وما يُفهم في إطار المقاصد العامة للشريعة. وهنا تبرز أهمية القراءة المقاصدية التي تجعل مقصود الشريعة—كالعدل، وحفظ النفس، وصيانة الكرامة الإنسانية—هو الميزان الذي تُفهم من خلاله الآيات والأحكام، فيتجاوز الفقيه ظاهر النص إلى روحه، ويتجاوز الخطاب العاطفي إلى خطاب علمي رصين يمنع توظيف الدين في الصراع أو العنف.

أولًا: الوعي الديني ومسؤولية الأخذ عن أهله
الدين؛ كما قال السلف؛ لا يؤخذ إلا عن أهله. لكن ما الذي يجعل بعض الأصوات غير المؤهلة تتصدّر المنابر؟ وما أثر ذلك على تشكيل الوعي الديني للمجتمعات المسلمة في المهجر؟
الخلل، في جزء منه، يعود إلى غياب الثقافة الشرعية الرصينة عن قطاع من الشباب، الذين يلتقطون ما يُلقى عليهم دون فحص أو تمحيص.
ولذا تأتي هذه المقالة لتذكّر بأن القرآن لا يُفسّر بالرأي المجرد، ولا بالجزء المنزوع من كليته، بل بفهم لغوي–سياقي؛ تاريخي؛ مقاصدي متكامل.
في التجربة الإيطالية، يظهر بجلاء أن الجهل لا يهدّد فقط صورة الإسلام، بل يُربك علاقة المسلمين بالمجتمع المدني الذي أتاح لهم حرية العبادة والتنظيم الديني في إطار من الاحترام المتبادل وسيادة القانون. وهذا المعطى الحضاري يدفع إلى طرح سؤال مركزي:
كيف نتعامل نصيًا وفقهيًا مع آيات القتال في سياق تعايشي معقّد، دون الوقوع في إسقاطات حرفية تهدم الجسور بدل ترميمها؟

ثانيًا: السياق التاريخي لآية التوبة 29 بين الواقع والقراءة التجزيئية
تكاد أغلب التفاسير الكبرى؛ ابن كثير، الطبري، السيوطي؛ تجمع على أن آية التوبة 29 نزلت في سياق سياسي–عسكري محدّد: غزوة تبوك، وما سبقها من خيانة عهود، وتحرّشات عسكرية من بعض طوائف أهل الكتاب المتحالفة مع الروم.
وبالتالي فالآية ليست أمرًا مُطلقًا بقتال أهل الكتاب، بل حكمًا ظرفيًّا مرتبطًا بنقض العهد والعدوان المباشر.
وهنا تبرز أسئلة بحثية عميقة:
هل يمكن للفقيه أو الباحث اليوم أن يفصل الحكم عن سياقه التاريخي؟
وهل يجوز تحويل آية نزلت لمعالجة واقعة محدّدة إلى قاعدة مطلقة تنظّم العلاقة الدائمة مع غير المسلمين؟
إن أي قراءة تُغفل سياق النزول تُنتج فهمًا منقوصًا، بل وخطرًا.

ثالثًا: نحو قراءة منظومية للقرآن: السلم أصل، والقتال استثناء
تؤكد البنية القرآنية العامة أن السلم هو الأصل، وأن القتال مرتبط بالعدوان، لا بالاختلاف الديني.
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ… أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}
{وَلَا تَعْتَدُوا}
هذه النصوص تطرح سؤالًا مضمرًا:
ما الذي يجعل بعض القراءات تقتطع آية القتال وتُسكت عن عشرات الآيات التي تؤسّس للبر والقسط والرحمة؟
إنه سؤال يكشف الحاجة إلى منهج تفسير مركزي–منظومي يرفض الانتقاء، ويؤمن بأن النص القرآني شبكة دلالية واحدة لا تُفهم إلا في ترابطها.

رابعًا: من “الصغار” إلى مفهوم الدولة: مراجعة فقهية متقدمة
شاعت بين غير المتخصصين قراءة سطحية لمفهوم “الصغار”، وكأنه إذلال أو إهانة. لكن الموروث الفقهي الرصين يقدّم صورة مغايرة:

الشافعي: الصغار هو الخضوع للنظام القانوني للدولة، لا الذل.

ابن حجر: الجزية عقد حماية لا علاقة له بالإكراه.

الزحيلي: الجزية آلية تنظيم إداري، تشبه الضريبة، مقابل الحماية والخدمات.
هذه الطروحات تفتح سؤالًا نقديًا:
هل يمكن لمفهوم فقهي نشأ في سياق دولة إمبراطورية قديمة أن يُنقل حرفيًا إلى سياقات دول قومية حديثة؟
إن الوعي المقاصدي يحتم أن نفهم الجزية ضمن سياقها التاريخي، لا كمفهوم قابل للإسقاط المباشر على الواقع المعاصر.

خامسًا: التعايش في الوثيقة العمرية ووثيقة المدينة: نماذج معيارية
عند مراجعة العهدة العمرية ووثيقة المدينة تظهر مبادئ دستورية باهرة:

حماية دور العبادة.

ضمان الحقوق المدنية والدينية لغير المسلمين.

عدم الإكراه.

المشاركة في الدفاع المشترك وفق قواعد العهد.
هذه النماذج تدفع إلى سؤال محوري:
إذا كان مؤسّسو الدولة الإسلامية الأولى قد بنوا نظامًا تعايشيًا متطورًا، فكيف يُختزل الخطاب الديني اليوم في مقولات الصدام دون استحضار هذه النماذج؟

سادسًا: فلسفة الجهاد: من آلية دفاع إلى مقصد حفظ النفس
المقصد الجوهري للجهاد في الشريعة ليس نشر الدين بالقوة، بل رفع الظلم والدفاع عن المجتمع.
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}
إنه نص يؤسس بوضوح لمبدأ المشروعية الدفاعية، لا الهجومية.
وهنا سؤال تأملي: كيف يمكن إعادة بناء مفهوم الجهاد في الوعي المعاصر بحيث يُستعاد كقيمة أخلاقية لحفظ النفس، لا كأداة صراع كما تصوّره بعض الخطابات المتشددة؟

سابعًا: التجربة الإيطالية: نموذج حي لتفاعل القيم الإسلامية والمدنية
التجربة الإيطالية تُظهر أن التعايش ليس خطابًا بل واقعًا:
حرية العبادة، بناء المساجد، الأنشطة الثقافية، التعاون بين الدولة والجالية، الخطاب الإيجابي للفاتيكان…
هذه المؤشرات كلها تتيح طرح سؤال مهم:
هل يمكن للفقه الإسلامي أن يُعيد صياغة نماذجه للعلاقة مع غير المسلمين في ضوء تجارب التعايش الحديثة دون أن يفقد هويته؟
الإجابة تكمن في فقه المقاصد، حيث تتكامل قيم الإسلام مع القيم المدنية المشتركة.

خاتمة: نحو قراءة مقاصدية نقدية تُحصّن الشباب وتبني وجودًا حضاريًا
الفهم المتوازن لآية التوبة 29 لا يعني تعطيل الجهاد ولا تبني خطاب تصالحي ساذج، بل يعني إعادته إلى بنية الشريعة الأخلاقية العليا: العدل، حفظ النفس، صون المجتمع، بناء السلم ما أمكن.
إن استعادة الوعي بهذا كله ضرورة للجيل المسلم في الغرب، حيث تتقاطع الهويات وتتعدد المرجعيات.
ولذلك يجب أن يكون المسلم سفيرًا لدينه: يُظهر رحمته في سلوكه، ويُظهر علمه في فهمه.
ويبقى السؤال المفتوح الذي أتركه للقارئ:
هل نحن مستعدون لأن نعيد قراءة تراثنا بروح نقدية واعية، تُنقذ النص من جمود التأويل، وتُنقذ الواقع من فوضى الجهلة؟
اللهم أرِنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.واهدِ قلوب شبابنا إلى العلم الراسخ، والفهم السليم، والبصيرة التي تجمع بين نصوصك ومقاصد شريعتك.

Ahame Elakhbar | أهم الأخبار

جريدة أهم الأخبار هي جريدة مغربية دولية رائدة، تجمع بين الشمولية والمصداقية، وتلتزم بالعمل وفقًا للقانون المغربي. تنبع رؤيتها من الهوية الوطنية المغربية، مستلهمة قيمها من تاريخ المغرب العريق وحاضره المشرق، وتحمل الراية المغربية رمزًا للفخر والانتماء. تسعى الجريدة إلى تقديم محتوى يواكب تطلعات القارئ محليًا ودوليًا، بروح مغربية أصيلة تجمع بين الحداثة والجذور الثقافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا