تعيش منطقة جنوب آسيا واحدة من أخطر لحظاتها منذ عقود، بعد أن تصاعد التوتر بين الهند وباكستان إلى مستويات غير مسبوقة خلال شهر مايو 2025. بدأ المشهد يتعكر بعد هجوم دامٍ في إقليم كشمير، أسفر عن مقتل 26 شخصًا، لترد الهند بغارات جوية استهدفت مواقع داخل باكستان، ما تسبب في سقوط 31 مدنيًا حسب الرواية الباكستانية. ردّت إسلام آباد بإسقاط خمس طائرات هندية، وتبادلت الدولتان القصف عبر خط السيطرة، ما أدى إلى مقتل مدنيين وإغلاق المطارات وتعليق الرحلات الجوية. وسط هذا التصعيد، فرضت الهند قيودًا على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، في خطوة أثارت مخاوف من تقييد حرية التعبير.
تبدو هذه المواجهة مختلفة عن سابقاتها، إذ بات شبح الحرب النووية أكثر حضورًا. في تصريح خطير صدر بتاريخ 8 مايو 2025، أكد وزير الدفاع الباكستاني خواجة آصف أن “خطر الحرب النووية أصبح تهديدًا واضحًا وحاضرًا”، في رسالة مباشرة للمجتمع الدولي حول جدية الموقف. على الجانب الآخر، اتخذت الولايات المتحدة موقفًا فاتراً، إذ صرح نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس بأن الحرب المحتملة “ليست من شأننا”، في دلالة على عزوف واشنطن عن التدخل المباشر، رغم تحذيرات حلفائها من خطورة الموقف.
لكن هل فعلاً تقف واشنطن على الحياد؟ أم أن في الصمت الأمريكي مصلحة مستترة؟ في الواقع، يرى كثير من المحللين أن التصعيد بين الهند وباكستان، إذا بقي ضمن حدود غير نووية، قد يخدم أهدافًا أمريكية على المدى المتوسط. فالهند، رغم تحالفها مع واشنطن، تمثل قوة صاعدة اقتصاديًا وسياسيًا تسعى لاستقلالية إستراتيجية متزايدة. وقد يكون انشغالها في نزاع طويل مع باكستان وسيلة فعّالة لاستنزافها، وتقييد قدرتها على المنافسة العالمية، سواء في مشاريع الربط التجاري أو في التوازن مع الصين.
أي تصعيد عسكري سيجعل نيودلهي أكثر اعتمادًا على الدعم الأمريكي، من تسليح واستخبارات ومواقف سياسية، ما يمنح واشنطن أوراق ضغط أكبر، ويقيد الطموح الهندي في بناء شراكات بديلة مع روسيا أو توسيع نفوذها في آسيا الوسطى والخليج. كما أن استمرار التوتر بين الهند وباكستان قد يربك الصين نفسها، خاصة إذا اضطرت بكين للانخراط سياسيًا أو اقتصاديًا لدعم باكستان، ما يصبّ مباشرة في مصلحة أمريكا التي تسعى لتطويق الصين من مختلف الجهات.
أضف إلى ذلك أن أي اضطراب في المنطقة قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة، مما ينعش صادرات الغاز والنفط الأمريكي، بينما تزدهر أيضًا مبيعات السلاح لدول آسيا. لذا، فإن موقف واشنطن “البارد” ليس بالضرورة انعكاسًا لعدم الاهتمام، بل قد يكون تعبيرًا عن حسابات دقيقة ترى في التصعيد فرصة، ما دام لا ينفلت من السيطرة.
لكن خلف هذا التصعيد الظاهر بين الهند وباكستان، تبرز خيوط صراع أوسع ترتبط بالتحولات الجيوسياسية في آسيا، وتحديدًا المنافسة الصاعدة بين الهند والصين. الهند تشهد نموًا اقتصاديًا متسارعًا جعلها تحتل المرتبة الخامسة عالميًا، وتُعد اليوم وجهة مفضلة للاستثمارات الغربية، خصوصًا في ظل تراجع الثقة بسلاسل التوريد في الصين بعد جائحة كورونا. مشاريع كبرى مثل “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” بدأت تنافس مباشرة “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، ما يضع نيودلهي في موقع تهديد استراتيجي لطموحات بكين.
في هذا السياق، يُطرح احتمال أن تكون الصين، دون تدخل مباشر، تدفع باكستان إلى تصعيد التوتر مع الهند كوسيلة لإضعافها أو على الأقل شغلها عن تحقيق اختراقات سياسية واقتصادية دولية. العلاقة العضوية بين بكين وإسلام آباد معروفة، وتترجمها عشرات المشاريع العملاقة مثل “الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني”. كما أن التعاون الدفاعي بين الطرفين، والتنسيق في ملفات الحدود والطاقة، يجعل من باكستان حليفًا مثاليًا تستخدمه الصين للضغط على خصمها الإقليمي.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه الهند تعليق معاهدة مياه السند، ما أدى إلى خفض تدفق المياه بنسبة 90% نحو باكستان، كانت الصين تبني سدودًا على نهر براهمابوترا، مهددة بدورها أمن الهند المائي. هكذا، تتحول المياه إلى سلاح استراتيجي جديد، وتُدار المعركة عبر الأنهار كما تُدار عبر الطائرات والصواريخ.
رغم هذا التصعيد، تشير التقديرات المستندة إلى تصريحات القادة والمواقف الدولية إلى أن احتمال اندلاع حرب نووية يقدر بنحو 20%، وهي نسبة منخفضة لكنها مقلقة في ظل انعدام الوساطات الفعالة وغياب الرغبة الدولية في التدخل العاجل. ومع انشغال القوى الكبرى بأزمات أخرى، تبدو المنطقة متروكة لمصيرها، ما يزيد من خطر الانفجار.
لكن ما يجعل الوضع أكثر رعبًا هو أن الحرب النووية، وإن اندلعت على نطاق إقليمي، فإن تأثيرها سيكون عالميًا. فحسب دراسات علمية، فإن تبادل محدود للرؤوس النووية بين الهند وباكستان قد يُطلق سُحبًا هائلة من الدخان والسخام إلى طبقات الجو العليا، مما يؤدي إلى ما يسمى بـ”الشتاء النووي”؛ حيث تنخفض درجات الحرارة عالميًا، وتتعطل مواسم الزراعة، ما يؤدي إلى نقص غذائي حاد ومجاعات قد تُهدد مئات الملايين حول العالم. كما أن الكارثة الإنسانية في جنوب آسيا ستؤدي إلى موجات نزوح ضخمة وأزمات لاجئين تطال حدود الصين وإيران وأفغانستان وربما أبعد من ذلك.
الاقتصاد العالمي أيضًا لن يكون بمنأى، فالهند لاعب رئيسي في السوق الدولية، وأي اضطراب في استقرارها سيهز الأسواق وسلاسل الإمداد. فضلًا عن ذلك، فإن اندلاع نزاع نووي قد يدفع دولًا أخرى للتسلح النووي، ويُضعف الثقة في معاهدات حظر الانتشار، ما يُدخل العالم في مرحلة جديدة من سباق التسلح.
الوضع في جنوب آسيا اليوم لا يحتمل التهاون. فكل خطوة خاطئة، وكل تصريح ناري، وكل صاروخ ينطلق، قد يكون بداية لواحدة من أعظم الكوارث في القرن الحادي والعشرين. وإذا لم تتحرك الدبلوماسية الدولية سريعًا، فقد نصحو قريبًا على أنقاض مدينة، أو ربما قارتين.