أراء وكتاب

رؤوس الخنازير أمام المساجد: عندما تتحول الكراهية إلى طقس يومي في قلب باريس

عبد الله مشنون كاتب صحفي مقيم في ايطاليا

في صبيحة رمادية من سبتمبر، استيقظت بعض المساجد في ضواحي باريس على مشهد بالغ القسوة والرمزية: رؤوس خنازير موضوعة أمام أبوابها، في رسالة كراهية لا تحتاج إلى ترجمة. حادثة مروعة لم تكن الأولى من نوعها، لكنها تأتي هذه المرة في سياق أكثر توترًا وحساسية، حيث ارتفعت وتيرة الإسلاموفوبيا في فرنسا بشكل غير مسبوق، مدفوعة بخطاب سياسي متوتر وتغطيات إعلامية متحيزة.

هذه الواقعة ليست مجرد عمل تخريبي معزول، بل جزء من مناخ عام ينذر بالخطر، إذ تُستخدم الرموز الدينية كأدوات لإهانة الآخر، وتُستغل المشاعر العامة لتغذية خطاب التفرقة. استخدام رؤوس الخنازير – التي تعتبر نجسة في التصور الديني الإسلامي – لم يكن صدفة، بل اختيارًا متعمدًا لإيذاء مشاعر الملايين من المسلمين الذين يعيشون في فرنسا، بل وتهديدًا ضمنيًا لحقهم في العبادة والوجود الآمن.

الردود الرسمية الفرنسية جاءت على نحو تقليدي: إدانة، تصريحات شجب، ووعود بالتحقيق. لكن هذه اللغة لم تعد كافية أمام تصاعد الاعتداءات ذات الطابع الديني، خاصة مع وجود مؤشرات إلى أن مرتكبي الحادثة ليسوا مجهولين، بل أشخاص غادروا الأراضي الفرنسية بعد تنفيذ فعلتهم، ما يطرح تساؤلات حقيقية حول فعالية الرقابة، وحدود إنفاذ القانون، وغياب الإجراءات الوقائية.

المطلوب اليوم ليس فقط ملاحقة الجناة، بل الاعتراف بوجود مناخ ثقافي وإعلامي يُشرعن الكراهية باسم حرية التعبير، ويسمح بتكرار مثل هذه الأفعال دون شعور حقيقي بالخطر الذي تخلّفه على المجتمع الفرنسي بأسره.

في كل مرة تقع فيها حادثة مشابهة، يتكرر السؤال ذاته: هل المسلمون في فرنسا مواطنون فعلاً؟ أم أنهم يُعاملون كجسم غريب، يحتاج في كل مرة إلى الدفاع عن نفسه، وإثبات “ولائه” للجمهورية؟ إن استمرار استهداف أماكن العبادة الإسلامية، ومحدودية الردع القانوني، يكرسان شعورًا متزايدًا لدى الجالية المسلمة بأنها تحت الحصار – ليس فقط من قبل المتطرفين، بل من تواطؤ الصمت أيضًا.

وما يزيد من فداحة الأمر، هو توظيف الرموز الوطنية – كما حدث عندما كُتب اسم رئيس الدولة على بعض الرؤوس – في محاولة لإضفاء شرعية ضمنية على الجريمة، أو ربطها بخطاب سياسي معين، وكأن الكراهية أصبحت جزءًا من الهوية الفرنسية الحديثة.

ما يجري في شوارع باريس لا يعكس فقط تصدعًا في العلاقات بين مكونات المجتمع الفرنسي، بل يكشف كذلك عن معركة صامتة على معنى المواطنة، وعلى صورة فرنسا في أعين أبنائها. فرنسا التي طالما قدّمت نفسها كحاضنة للتنوع والانفتاح الثقافي، تجد نفسها اليوم في مواجهة سؤال أخلاقي عميق: هل ما زالت قادرة على حماية قيمها الجمهورية؟ أم أنها تتخلى عنها تدريجيًا تحت ضغط التطرّف المعاكس؟

معاداة الإسلام لا تتجلى فقط في الاعتداءات المادية، بل في الصمت المؤسسي، والتقاعس عن فرض الحماية الكافية، والسماح لخطاب الكراهية بأن يتسلل إلى المدارس، والإعلام، والمؤسسات. وإذا لم تتحرك الدولة الفرنسية بشكل حازم، فإن هذه الظواهر ستترسخ في الذاكرة الجمعية، وستؤدي إلى جراح اجتماعية يصعب ترميمها لاحقًا.

المطلوب اليوم أكثر من الإدانة. المطلوب خطاب سياسي مسؤول، يعترف بأن المسلمين ليسوا “ضيفًا ثقيلًا” على فرنسا، بل جزءٌ أصيل من نسيجها الوطني. والمطلوب كذلك تفعيل آليات حماية دور العبادة، وتجريم الأفعال الرمزية التي تمس المشاعر الدينية، والتصدي بحزم لكل محاولة لتحويل الدين إلى سلاح للتمييز أو التهديد.

كما أن على المجتمع المدني أن يلعب دوره كاملاً في فضح مثل هذه الممارسات، وكسر جدار الصمت، والتصدي لتطبيع الكراهية بأي شكل من الأشكال. لأن التهاون في وجه هذه الرسائل، حتى لو جاءت على هيئة رؤوس خنازير، هو قبول ضمني بمنطق الإقصاء والعداء، ومقدمة لانفجار اجتماعي قد يدفع الجميع ثمنه.

حادثة باريس ليست فقط جريمة ضد المسلمين، بل هي جرح في الضمير الفرنسي. إنها امتحان لقيم الحرية والمساواة التي تقوم عليها الجمهورية. وإن لم يتم التعامل معها بما تستحق من جدية وحزم، فستصبح مجرد حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الانحدار الأخلاقي.
فالمعادلة واضحة: إما دولة تحترم جميع مواطنيها، أو مجتمع يتآكل من الداخل، باسم “الهوية” التي لم تعد تسع الجميع.

Ahame Elakhbar | أهم الأخبار

جريدة أهم الأخبار هي جريدة مغربية دولية رائدة، تجمع بين الشمولية والمصداقية، وتلتزم بالعمل وفقًا للقانون المغربي. تنبع رؤيتها من الهوية الوطنية المغربية، مستلهمة قيمها من تاريخ المغرب العريق وحاضره المشرق، وتحمل الراية المغربية رمزًا للفخر والانتماء. تسعى الجريدة إلى تقديم محتوى يواكب تطلعات القارئ محليًا ودوليًا، بروح مغربية أصيلة تجمع بين الحداثة والجذور الثقافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا