يفتتح القرآن الكريم سورة فاطر بحمدٍ جامع، يُقرِّر من خلاله حقيقةً ثابتة من حقائق الغيب، فيقول الله تعالى:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. وهي آية تُحدِّد خِلقة الملائكة كما جاءت في الوحي، بعبارة واضحة لا تخرج عن الخبر ولا تتجاوز النص.
تُثبت الآية أن الملائكة جُعلوا رسلًا، وأن الله خلقهم ذوي أجنحة متفاوتة العدد، اثنين وثلاثة وأربعة، مع ثبوت الزيادة في الخِلقة بمشيئته سبحانه. وقد قرر المفسرون أن هذه الآية لم تنزل بسبب حادثة مخصوصة، بل جاءت ابتداءً تقريرًا لعقيدة الغيب وتعريفًا بخلقٍ من خلق الله كما هو.
وتأتي السنة النبوية مؤيِّدة لهذا البيان القرآني في الخِلقة. فقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «رأيتُ جبريلَ عليه السلام له ستمائة جناح»، وفي رواية: «قد سدَّ الأفق»، وهو حديث متفق عليه. كما ثبت عنه ﷺ قوله: «خُلِقَتِ الملائكةُ من نور»، رواه مسلم، وهو بيان لأصل خِلقتهم دون تعرّض للكيفية. وجاء عنه ﷺ أيضًا: «أُطَّتِ السماءُ وحُقَّ لها أن تئطّ، ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلا وملكٌ واضعٌ جبهته ساجدًا لله»، وهو حديث حسن، يثبت كثرة الملائكة وعِظم خَلقهم.
وقد نقل الإمام الطبري أن معنى الآية أن الله جعل الملائكة رسلًا وخلقهم ذوي أجنحة يطيرون بها، على اختلاف عددها، وأن ذلك خبر عن خِلقة حقيقية. وقال الإمام القرطبي إن الآية دليل صريح على أن للملائكة أجنحة على الحقيقة، وأن قوله تعالى: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾ عامّ فيهم وفي غيرهم. وذكر الإمام الفخر الرازي أن ذكر المثنى والثلاث والرباع ليس للحصر، بل لبيان القدرة وتفاوت الخِلقة. وأكد الإمام ابن كثير أن الآية نصٌّ في خِلقة الملائكة، وأن السنة الصحيحة جاءت شاهدة لها دون زيادة على الوارد.
وبذلك تجتمع نصوص القرآن والسنة، وأقوال أئمة التفسير، على تقرير خِلقة الملائكة كما أخبر بها الوحي: أجنحة متفاوتة العدد، وزيادة في الخِلقة بمشيئة الله، خبرٌ يُتلقّى كما ورد، بلا وصف زائد ولا خوض في الكيفية.
المصادر:
القرآن الكريم – سورة فاطر (الآية 1)
الطبري، جامع البيان
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن
الفخر الرازي، مفاتيح الغيب
ابن كثير، تفسير القرآن العظيم
صحيح البخاري ومسلم (أحاديث رؤية جبريل عليه السلام)
صحيح مسلم (حديث: «خُلِقَتِ الملائكة من نور»)
مسند أحمد وسنن الترمذي (حديث: «أُطَّتِ السماء…»)
