اسلاميات

﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾… آيةُ اليقينِ والتوكّل

جاءت الآية الكريمة ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ في سورة الذاريات لتؤسّس لمعنى جليل من معاني الإيمان، وتغرس في القلب يقينًا راسخًا بأن تدبير الأرزاق والمصائر ليس بيد الخلق، وإنما هو عند الخالق سبحانه، في موضع العلو والقدرة والعلم المحيط. وقد اتفق أهل التفسير على أن هذه الآية لم ترتبط بسبب نزول خاص، وإنما نزلت ابتداءً هدايةً للناس، وتقريرًا لعقيدة التوحيد والتوكّل، وردًّا على ما قد يعتري النفوس من خوف الفقر والتعلّق المفرط بالأسباب.

وبيّن المفسّرون أن المراد بـ«السماء» ليس مجرّد الجرم المشاهد فحسب، بل هو موضع التقدير الإلهي الذي كتبت فيه الأرزاق والآجال والمقادير، كما يدخل في معناها السماء الحسية التي ينزل منها المطر، وهو سبب الحياة والإنبات. ونُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المقصود بالرزق في هذه الآية هو المطر وما ينشأ عنه من أقوات ومعايش، وهو قول أورده الطبري في تفسيره، وجرى عليه جمهور أهل العلم.

أما «الرزق» فيشمل كل ما ينتفع به العبد في دنياه، من مال وصحة وعلم وقوة وسكينة، لا ما يُؤكل ويُشرب وحده. وقد أكد ابن كثير أن الآية دلالة صريحة على أن الرزق مقدّر مقسوم، لا يزيده حرص حريص ولا ينقصه كره كاره، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾. وفي هذا المعنى تحرير للقلوب من الذل للمخلوق، وربط مباشر لها بمصدر العطاء الحقيقي.

وأما قوله تعالى ﴿وما تُوعَدون﴾ فقد فسره العلماء بما أعدّه الله لعباده في الآخرة من ثواب وعقاب، وجنة ونار، وحساب وجزاء. قال الإمام الطبري إن الوعد هنا يشمل كل ما أخبر الله بوقوعه في الدار الآخرة، وهو حق ثابت لا يتخلّف، كما أن الرزق حق مكتوب لا يتأخر. وذهب القرطبي إلى أن الجمع بين الرزق والوعد في آية واحدة إنما هو لتأكيد أن أمر الدنيا والآخرة جميعًا مردّه إلى الله وحده.

وقد زاد هذا المعنى توكيدًا بالقسم الإلهي الذي أعقب الآية مباشرة، إذ قال سبحانه: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾، وهو من أبلغ وجوه التأكيد في القرآن، حيث شبّه يقين الوعد والرزق بيقين الإنسان بنطقه، وهو أمر لا يشك فيه أحد. وقال الحسن البصري رحمه الله إن من أيقن أن رزقه عند الله استراح قلبه، ولم يتكفف الناس، ولم يهن في طلب الدنيا.

وتحمل هذه الآية دعوة صريحة إلى التوكّل الحق، الذي لا يعني ترك السعي، وإنما يعني عدم تعليق القلب بالأسباب، بل اتخاذها مع تسليم الأمر لله. وقد نبّه الإمام الرازي إلى أن الآية تقطع جذور الخوف من المستقبل، وتغرس في النفس الطمأنينة، لأن ما كُتب في السماء لا يخطئ طريقه إلى صاحبه.

تبقى آية ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ من الآيات الجامعة التي تُعيد ترتيب علاقة الإنسان بالدنيا، وتردّه إلى مقام العبودية الصافية، حيث يكون السعي مقرونًا باليقين، والعمل مشفوعًا بالتوكّل، والرجاء معقودًا على وعدٍ إلهيّ لا يتخلّف، لأن الله سبحانه هو المتفرّد بتدبير الأرزاق، والمنفرد بإنجاز الوعود، وهو أصدق القائلين.

جواد مالك

مدير عام و رئيس تحرير جريدة أهم الأخبار الدولية. أمين عام الإتحاد الدولي للشعراء والأدباء العرب (فرع المملكة المغربية). أمين سر منظمة أواصر السلام العالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا