
بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش المجيد، أطلق جلالة الملك محمد السادس عفوا ملكيا غير مسبوق شمل 19.673 من المحكوم عليهم، وهو رقم لم تشهده البلاد من قبل في أي مناسبة وطنية، ويؤشر على تحول عميق في فلسفة العدالة والسلطة العقابية بالمغرب.
قراءة تاريخية في أرقام العفو الملكي بعيد العرش
في السنوات الأخيرة، كان عدد المستفيدين من العفو الملكي بمناسبة عيد العرش يتراوح بين:
2018: نحو 1.200 مستفيد
2019: نحو 4.764 مستفيد
2020 (في ظل الجائحة): 1.446 مستفيد
2021: حوالي 1.243 مستفيد
2022: 1.769 مستفيد
2023: 2.052 مستفيد
2024: 3.248 مستفيد
وبمقارنة بسيطة، نلاحظ أن عدد المستفيدين في 2025 تضاعف أكثر من 6 مرات مقارنة بأعلى رقم سابق.
وهذا التحول العددي لا يمكن قراءته خارج سياق سياسي أعمق، مفاده أن الملك محمد السادس قرر أن يرفع التحدي علنًا، ويعلن من خلال العفو عن 19.673 شخصًا، أن المغرب قد دخل مرحلة جديدة عنوانها “المصالحة الوطنية الصامتة”.
السجون المغربية… بين الانتقام والرحمة
لفترة طويلة، وُصفت المؤسسات السجنية المغربية بأنها أماكن للانتقام أكثر مما هي فضاءات للإصلاح. تقارير وطنية ودولية متعددة تحدثت عن الاكتظاظ، وعن غياب التأهيل، وعن تزايد نسبة العود.
لكن العفو الملكي لهذا العام أرسل إشارة حاسمة: السجون ليست خزانًا للمعاقبة، بل يجب أن تكون فضاءً للرحمة، وللإدماج، وإعادة البناء النفسي والاجتماعي.
فمن خلال هذا العفو الجماعي، يكون الملك قد ردّ الاعتبار ليس فقط للمعتقلين، بل للدولة ككل، التي تُريد أن تداوي لا أن تُعاقب فقط، أن تُصلح لا أن تُهين، أن تُعيد دمج الإنسان لا أن تخرجه مكسورًا.
العفو كقرار سيادي وكموقف سياسي
هذا العفو لا يأتي فقط بلغة العطف، بل بلغة الدولة السيادية التي تُعلن رفضها لأن تتحول السجون إلى أدوات للترحيل أو التصفية السياسية أو القضائية. وفي هذا السياق، لا يمكن فهم العفو الكبير إلا كدعوة ضمنية إلى مراجعة السياسات العقابية، ومنع الاعتقال غير المبرر، والقطع مع العقوبات الطويلة غير الضرورية.
العفو أيضًا كان جوابًا ملكيًا غير مباشر على تصاعد الانتقادات، سواء من داخل المغرب أو خارجه، حول أوضاع المؤسسات العقابية. لكن بدل التبرير، جاء القرار بالحسم: العفو الجماعي هو الإصلاح الجماعي.
المصالحة الصامتة… بلا لجان ولا شعارات
عكس ما حدث في بداية الألفية الثالثة، حين تم تأسيس “هيئة الإنصاف والمصالحة”، فإن عفو 2025 جاء دون شعارات، ودون مؤتمرات، لكنه حمل مضامين المصالحة الأعمق: مع الذات، مع القانون، مع العائلة، مع الوطن.
من العرش إلى الزنازن… ومن الزنازن إلى القلوب
19.673 رقماً لا يشمل “الأول” ولا “الثاني” ولا “الثالث”… بل يشمل المغربي أينما كان، إذا أبدى استعدادًا للتوبة.
إنه عفو يمر من “العرش” إلى “الزنازن”، ثم يعود ليزرع الحياة في البيوت التي انطفأت، وفي القلوب التي انتظرت.
وبذلك، يكون محمد السادس قد فتح الباب أمام الدولة العاقلة، لا الدولة المعاقِبة. أمام مغرب الكرامة لا مغرب الانتقام.
توصيات للمستقبل
كمنسق وطني في مجال الصحافة والإعلام، وكمواطن مغربي معني بمستقبل البلاد، أجد في هذا القرار فرصة لـ:
فتح نقاش عمومي حول بدائل العقوبات السالبة للحرية
مراجعة شاملة لقانون الاعتقال الاحتياطي
دعم برامج الإدماج ما بعد السجن
تأسيس مرصد وطني مستقل لمراقبة وضعية السجون
تفعيل العدالة التصالحية في قضايا غير عنيفة
خلاصة القول:
لقد اختار الملك، بكل هدوء، أن يحكم باسم الرحمة، لا باسم الخوف.
واختار أن يجعل من عيد العرش ليس مجرد ذكرى لتجديد البيعة، بل فرصة لإعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع.
وبذلك، فإن عفو 2025 سيظل محفورًا في ذاكرة الوطن، ليس كرقم قياسي، بل كنقطة تحول في مسار العدل المغربي.