
على مر العصور، لم تكن الطائفة الدرزية مجرّد جماعة دينية منغلقة، بل كانت حالة مركّبة، تمارس وجودها في الظلّ، وتُتقن فنّ البقاء عبر الانحناء أمام العاصفة، ثم الانقضاض حين يضعف الخصم أو يتفرق الصف. هم أبناء عقيدة باطنية لا تسمح لأحد من خارجها بالدخول، ولا تُفصح عن مكنونها، بينما تمارس على أرض الواقع سياسة براغماتية دقيقة، جعلت منها حليفًا لمن غلب، ومراقبًا صامتًا حين تدور رحى الحرب.
منذ نشأتهم في ظلّ الخلافة الفاطمية، انشق الدروز عن الإسلام عبر فكرة تأليه الحاكم بأمر الله، ونزعوا عن أنفسهم التكاليف الشرعية، وأغلقوا أبواب الدعوة في وجه البشرية كلها. ومع هذا، ظلوا يختبئون وراء هوية إسلامية ظاهرية حين يتطلب الأمر، ويتبرأون منها حين تميل الكفة لصالح خصومهم. في كل صراع، كانوا هناك: مرة في صف المسلمين، ومرة في صف أعدائهم، لا تحكمهم عقيدة الجسد الواحد، بل مصلحة الجماعة، وإن كانت على حساب الدين والملة.
في التاريخ الوسيط، دعموا الصليبيين في بعض المراحل، وتحالفوا مع التتار في غيرها، ولم يُسجَّل لهم موقف قاطع في نصرة الأمة الإسلامية عندما كانت مهددة وجوديًا. في جبل لبنان، قاتلوا تحت راية الفرنسيين ضد الثورة السورية الكبرى، وانقلبوا على شركائهم من المسلمين في أوقات الحسم، بينما حفظوا للموارنة ظهرهم حين شعروا بأن الميزان يميل إلى الغرب. وفي سوريا الحديثة، دخل بعضهم في صفقات متقاطعة مع النظام العلوي، لا إيمانًا بمشروعه، بل اتقاءً لغضبه، وفي أحيان أخرى طمعًا في نفوذ محلي موسّع.
لكن الموقف الأوضح والأشد إثارة كان في فلسطين المحتلة. فبينما رفض معظم العرب الاعتراف بإسرائيل، دخل الدروز في تحالف عسكري وسياسي صريح مع الدولة العبرية، بل أصبحوا جزءًا من جيشها، يخدمون على الحدود، ويصوتون في برلمانها، ويؤدون أدوارًا أمنية داخل أراضي 1948. فُرض التجنيد الإجباري على الشباب الدرزي، وقبله الكثيرون لا عنوة، بل بدافع “الولاء المدني”، كما يقال. وبينما ترفع شعوب المنطقة راية القضية الفلسطينية، ظلّ الصوت الدرزي في الداخل الإسرائيلي إمّا صامتًا، أو داعمًا، أو “محايدًا بحكمة”.
هذا الوجه السياسي المتقلب، وهذه القدرة على التلون، لا تنفصل عن بنية العقيدة الدرزية نفسها، التي تُعلي من شأن السرّ والمراوغة والتقية، وتضع “مصلحة الطائفة” فوق كل ولاء ديني أو قومي. ولعلّ ذلك ما جعلهم جزءًا من كل تحالف قوي، ومتفرجين في كل صراع فيه دماء تُراق من أجل العقيدة.
ولم يكن هذا التوجه بلا ثمن. في فترات معينة، دُفع الدروز إلى هامش المعادلات، وارتدّت عنهم بعض تحالفاتهم. لكنهم سرعان ما أعادوا ترتيب أوراقهم، وانتقلوا إلى ظلّ قوي جديد، حتى لو كان في خانة الخصم التاريخي للأمة. فهم لا يقاتلون من أجل راية، بل من أجل الجبل، والهوية، واستمرار البقاء مهما تغيّر لون راية الحليف.
هكذا، يبقى الدروز بين غموض العقيدة وشبكة المصالح، عنصرًا صامتًا لكنه فاعل، يبتسم في وجه الجميع، ويخبّئ ولاءه حيث ترجح الكفة. ليسوا مع أحد بالكامل، ولا على أحد تمامًا، بل مع أنفسهم قبل كل شيء.