صحة

صدمتي بين الدواء وسعره: حين تُصبح صحة المواطن رهينة الجشع

أحدث الأخبار
مؤشرات الأسواق العالمية

لم أكن أعلم أن رحلة قصيرة إلى مصر ستوقظ في داخلي تساؤلات ظلت حبيسة الغفلة، وتكشف لي عن مفارقة عجيبة لم أكن لأصدّقها لولا أنني عشتها.
أنا مريض بداء السكري من النوع الثاني، وقد اعتدت منذ سنوات أن أتناول دواءً ثابتًا وصفه لي الطبيب، يُعرف باسم “جالفيس ميت 50/1000”. في المغرب، يُباع هذا الدواء بثمن لا يُستهان به، يقارب 400 درهم للعلبة الواحدة، حتى غدا بالنسبة إليّ ضرورة شهرية تثقل الكاهل لكنها لا تُؤجَّل.
سافرت إلى القطر المصري الشقيق، وفي غمرة الاستعداد والرحيل، نسيت أن أحمل ما يكفي من جرعاتي المعتادة. كنت أظن أنّ إقامتي لن تتجاوز خمسة أيام، لكنها امتدّت إلى عشرة، ووجدت نفسي مضطراً للبحث عن بديل يَسُدُّ الحاجة إلى حين عودتي.
دخلت إحدى الصيدليات في القاهرة لا أرجو أكثر من مُسكّن أو دواء مشابه، فإذا بالصيدلي يُناولني ذات الدواء، بنفس الاسم، ونفس العلبة، ونفس التركيبة التي أتعاطاها في المغرب. شعرت بدهشة سريعة ثم ارتياحٍ داخلي، وأخرجت بطاقتي البنكية للدفع… فسألت عن الثمن.

فجاءني الجواب كصفعة غير متوقعة: “315 جنيهاً مصرياً”. لم أصدق أذني، فأعدت السؤال، وأكد لي المبلغ. أجريت الحساب سريعاً في ذهني، وإذا بي أمام حقيقة مذهلة: هذا الدواء الذي أدفع مقابله في وطني 400 درهم، لا يتعدى في مصر 56 درهماً فقط!
تملّكني ذهول حاد، لم يكن سببُه الفارق في الثمن فقط، بل تلك الهوة السحيقة التي تفصل بين ما يُؤدّيه المريض المغربي، وما يُؤدّيه غيره في بلد لا يبعد عنا آلاف الأميال، ولا تفصله عنا اختلافات اقتصادية جوهرية تبرر هذا البون الشاسع.
تساءلت، كما يتساءل كل ذي عقل وضمير: كيف لدواء واحد، يُنتج في معمل واحد، ويوزّع تحت اسم واحد، أن يُسعَّر بهذه الفوارق الفلكية بين بلدين شقيقين؟ ومن ذا الذي يتحكم في أسعار الدواء بالمغرب؟ أهو القانون، أم هي أيادي خفية تحوّلت إلى لوبيات لا تُرى، لكنها تُمسك بخيوط صحة الناس؟
المسألة تتجاوز الفارق السعري، لتلامس جوهر العدالة الصحية. إن الدواء ليس سلعة ترفية، بل حاجة إنسانية ترتبط بالحياة أو الموت. فهل من المنطقي أن يبقى المريض المغربي رهينة حسابات السوق، وأهواء الوسطاء، وأرباح الشركات؟ أليس من واجب الدولة أن تتدخّل، وتُعيد ترتيب هذا الخلل الصارخ؟
عدت من مصر وفي يدي الدواء، لكن في صدري يقين مرّ: أن ما ندفعه في المغرب لا يُقاس فقط بثمن الدواء، بل بثمن صمتٍ طويل على واقع غير منصف، يُحوّل ألم المرضى إلى فرصة استثمار، ومعاناتهم إلى مصدر أرباح لا تخجل.
هذه المفارقة، التي تبدو بسيطة في ظاهرها، تفتح باباً واسعاً لسؤال يجب أن يُطرَح بجرأة: متى نعيد الاعتبار للمريض المغربي؟ متى تصبح صحته أولوية، لا سلعة تُقايض وتُضارب؟ ومتى نرى إصلاحاً حقيقياً يُراعي كرامة الإنسان، قبل أن يُراعي مصلحة السوق؟

جواد مالك

إعلامى مغربى حاصل على الاجازة العليا فى الشريعة من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. عضو الاتحاد الدولى للصحافة العربية وحقوق الانسان بكندا . متميز في مجال الإعلام والإخبار، حيث يعمل على جمع وتحليل وتقديم الأخبار والمعلومات بشكل موضوعي وموثوق. يمتلك مهارات عالية في البحث والتحقيق، ويسعى دائمًا لتغطية الأحداث المحلية والدولية بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. يساهم في تشكيل الرأي العام من خلال تقاريره وتحقيقاته التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المغرب. كما يتعامل مع التحديات اليومية التي قد تشمل الضغوط العامة، مما يتطلب منه الحفاظ على نزاهته واستقلاليته في العمل الإعلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا