
في زمن تتقاطع فيه الحروب التقليدية مع المعارك الرمزية، ويختلط فيه السياسي بالإعلامي، يجد المغرب نفسه في موقع مركزي ضمن خارطة التوازنات الإقليمية والدولية، ليس فقط بموقعه الجغرافي الاستراتيجي، ولا بثرواته الطبيعية، بل بنموذجه السياسي المتفرد، الذي يجمع بين الشرعية التاريخية والتجديد المؤسساتي، وبين الانفتاح الاقتصادي والحفاظ على الثوابت الوطنية. هذا النموذج، الذي ظل يشكل مصدر قوة داخلية ونقطة جذب خارجية، أضحى مستهدفًا من قِبل أطراف لا تخفي ضيقها من استقرار المملكة وصعودها المتنامي.
ليس خافيًا أن ضرب المؤسسات أصبح نهجًا تعتمده جهات معادية، تسعى لخلق الفوضى عبر تفكيك الثقة في رموز السيادة، وإرباك التوازنات الداخلية للدول. وقد كشفت تجارب قريبة وبعيدة كيف أن الطعن في رمزية الحكم واستهداف الأجهزة السيادية وإغراق الساحة بالإشاعات المغرضة يشكل مقدمة لصناعة فراغ سياسي تُراد له أن يتحول إلى مدخل لانهيار الدولة أو إسقاط نظامها. المغرب، الذي تجاوز رياح “الربيع العربي” بحكمة قيادته وتلاحم مجتمعه، لم يكن في منأى عن هذه المخططات، بل أصبح هدفًا مركزيًا ضمن استراتيجية ناعمة تعتمد الإعلام المأجور، وتغذية النزعات الانفصالية، واستعمال منابر خارجية لترويج سرديات ملفقة ومغرضة.
لقد كانت المؤسسة الملكية، على مرّ التاريخ المغربي، ركيزة الدولة وبوصلة مسارها السياسي. وبالملكية تحرر المغرب من الاستعمار الفرنسي والإسباني، وبها بُنيت مؤسسات ما بعد الاستقلال، وبقيادتها استعاد المغرب صحراءه بعد مسيرة شعبية سِلمية غير مسبوقة. ومنذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، دخلت المملكة مرحلة جديدة عنوانها التحديث والإصلاح المتوازن، إذ لم يكتفِ العهد الجديد بالبنيات التحتية الكبرى أو الانفتاح الاقتصادي، بل أرسى إصلاحات عميقة مست السياسات الاجتماعية، والعدالة الانتقالية، واللامركزية، وتعزيز الحريات، دون التفريط في الخصوصية المغربية. هذا المسار الإصلاحي العقلاني، في محيط إقليمي متقلب، جعل من المغرب حالة استثنائية، وهو ما أزعج خصومه وحرّك شهية المتربصين به.
وفي قلب هذه المعركة، برز دور الأجهزة السيادية التي شكلت درعًا واقيًا للدولة. فالمديرية العامة للدراسات والمستندات، والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، لم تُعرف فقط بكفاءتها العالية في التصدي للإرهاب أو تفكيك الشبكات المتطرفة، بل أظهرت كذلك يقظة استراتيجية في حماية أمن الدولة الداخلي والخارجي، وضبط التوازن بين الحزم واحترام القانون. هذه الأجهزة لا تتحرك في فراغ، بل تندرج ضمن تصور أمني-مؤسساتي تقوده الملكية، قوامه التكامل بين الاستباق الأمني، والبعد التنموي، والتحصين الثقافي والحقوقي. فالأمن في المغرب لم يعد مجرد جهاز، بل هو ثقافة دولة تسعى للحفاظ على مناعتها دون السقوط في التسلط.
لكن الهجمات الموجهة ضد المغرب لا تقتصر على الأمن، بل تمتد إلى الإعلام، حيث أضحى الإعلام المأجور أحد أخطر أدوات تقويض الدولة. تُفبرك الأخبار، وتُركب التقارير، وتُستغل شهادات مضللة لضرب المؤسسات، والطعن في رمزية العرش، وتقديم المغرب كدولة قمع وتسلط، بينما تغضّ الأبواق نفسها الطرف عن إنجازاته الكبرى، وتُغيّب تحوّلاته المتدرجة، وتُنكر خياراته السيادية. إنها حرب سرديات، لا تقل خطورة عن المعارك المسلحة، تسعى إلى سلب المغرب حقه في رواية ذاته، وتشويه صورته أمام شعبه ومحيطه وشركائه. لكن المغرب، المدرك لأبعاد هذه الحرب الناعمة، يردّ بمنطق السيادة، لا بالضجيج، ويراهن على شرعية منجزه، لا على الدفاع المرتبك.
ولعل ما يُغيظ خصوم المغرب أكثر من أي شيء آخر هو هذا التماسك الداخلي الذي يحول دون انفجار الوضع، رغم التحديات الاجتماعية والضغوط الاقتصادية. فالمغاربة، في لحظات الشك، يلتفون حول رموزهم، ويفهمون الفرق بين النقد البناء والتخريب الممنهج، ويدركون أن حماية النظام ليست خضوعًا، بل إدراك بأن سقوطه يعني سقوط الدولة ككل. ومن يسعون إلى تفتيت المغرب، سواء عبر أطروحات الانفصال في الصحراء أو عبر أوهام إسقاط النظام، يتجاهلون عمق الرابط بين الشعب ومؤسساته، ويتوهمون أن المغرب قابل للتقسيم أو الابتلاع. لكن الحقيقة أن المغرب أقوى من أن يُكسر، لأن جذوره ضاربة في التاريخ، ومؤسساته متجددة، وملكيته حصنٌ لا يُخترق.
إن معركة المغرب اليوم ليست فقط في الدفاع عن أرضه، أو صدّ الحملات الإعلامية المضللة، بل في حماية نموذجه الحضاري، ومنهجه في الحكم، وشخصيته المتفردة. وهي معركة يتقاطع فيها الأمن بالسياسة، ويتداخل فيها الإعلام بالشرعية، ويشتبك فيها الخارج مع الداخل. لكنها في نهاية المطاف معركة وعي، وانتظام، وتحصين، وقد أثبت التاريخ أن المغرب حين يُستهدف، يخرج أصلب وأقوى، وأن سرّ بقائه لم يكن يومًا صدفة، بل نتيجة عمق في القيادة، وتماسك في البناء، وحكمة في التقدير.